

#شرف إخاء عدالة
نِيلُ صِنْهَاجَةَ هكذا سمّاه المؤرخون الأوائل من المسلمين والعرب لارتباط ذكره بصنهاجةِ الجنوبِ أساس دولةِ المرابطين.
وسُمِّيَ “نهرَ الذهب” في زمن ازدهار مملكة گَانَا (مالي) وازدهار تجارة الذهب بسبب رواسب الذهب الهائلة التي وجدت بهذا النّهر الغني، وكان هو المنفذ الوحيد من ساحل المحيط الأطلسي إلى هذه المملكة التي كانت من أكبر مصادر الذهب في العالم كله. ولكنه نهر ضحل لايستوعب السفن الكبرى بل يَقتصر راكبوهُ على المراكب الصغيرة أو المتوسطة.
وسمّاه الأوروبيون حين مالت الريح لهم لانتهاجهم العلم التجريبي وإعطائهم لإنسانِهم حرية التفكير والإبداع وبدأوا يكتبون تاريخ البشرية من وجهة نظرهم وانطلاقا من فهمهم ويقسمونها دُولا كما شاؤوا، حينها سمّوه نهرَ السَّنَغَال وقد يكون ذلك لأَنَّها الدولة التي يستحوذ النهر على معظم حدودها شرقا وشمالا. ولايُستبعد أن تكون كلمة سنغال تحريفا لكلمة اثْنگنْ والتي تعني اژناگه بلغة صنهاجة موريتانيا.
وممّا يبعث للدهشة كيف لمْ يُسَمِّه النّاسُ نهر الْفُلْبَه أي الفلان الذين هم أكثر الشعوب تواجدا على ضفتيه بكثرة عند منبعه حيث ينبع من موطنهم في فُوتَه جالون في غينيا ويتواصل تواجدهم معه في موطنهم فُوته تُورُو ويواصلون رحلتهم معه حتى يكاد يصل إلى مصبّه في المحيط الأطلسي عند مدينة ئِنْدَرْ (سان لوي) قاطعا ألفا وثمانمائة كيلو متر. ومن المعلوم بالدلائل والوقائع التاريخية أن الفُلَّان كان لهم دور كبير جدا في نشر الإسلام والقيام بأمره في غرب إفريقيا ودُول الساحل يُضاهي الدور الذي قامت به صنهاجة شمالا والذي كان للفلان فيه حضور كبير فلقد شاركوا في رباط العلامة عبد الله بن ياسين حتى شاركوا في وقعة الزلاقة.
لقد كان نشاط صنهاجة المتمثل في دولة المرابطين الإسلامية منطلقا من هذا النّهر شمالا حتى بلاد الأندلس في أوربا وأما الفُلَّانْ فقد قاموا بنفس الدور منطلقين من هذا النّهر جنوبا متغلغلين في القارة السمراء حتى تخطوا الكامرون وانطلقوا شرقا فاتحين في دول الساحل حتى تغلغلوا في تشاد شرقا.
الرقعة الجغرافية التي نشر فيها الفلان الإسلام وتعاليمه وعلّموا الناس وأرشدوهم مع التربية العميقة والقدرة الفائقة على احترام الشعوب الأخرى وترك الأمر لها للحفاظ على لغتها وكل ثقافتها مالم تتعارض مع تعاليم الدين الحنيف، هذه الرقعة الجغرافية التي جابتها خيول الفُلّانْ المسلمين الفاتحين أوسع من الرقعة التي شملها حكم المرابطين سائرين على نهج القرآن والسنة متمسكين بمذهب الإمام مالك وهي نفس المدرسة التي سار عليها العلماء الأمراء المجددون من الفلان جنوبا وشرقا.
وأذكر باختصار شديد ثلاثة أمثلة فقط:
أوّلا دولة الإمامة الإسلامية والتي كانت أنموذجا ثانيا بعد دولة الإمامة تحت قيادة الإمام ناصر الدين والتي قامت على الضفة الشمالية وتمّ القضاء عليها بالحرب الأهلية الطاحنة بين الزوايا الأئمة والعرب الأمراء أعني حرب شَرْبَبَّه التي نشبت عام 1645م ودامت ثلاثين عاما من سفك الدماء وانتهت بنصر الأمراء العرب على الأئمة الزوايا ولكن ذلك لم يَرُقْ للجناح الفلاني من التّكارير الزوايا ورثة المرابطين بل كان موقظا للضمير الإسلامي الحيّ في نفوسهم حتى أسسوا دولة الإمامة على ضفتي النّهر تحت قيادة الشيخ الأمير الإمام سليمان بال رحمه الله وهو مؤسس دولة الأئمة التي امتدت للفترة ما بين سنة 1770 لغاية 1880.
ولقد حارب الاسترقاق الذي كان الأوروبيون يزاولونه رمع بعض السماسرة المحليين الذين كان معظمهم من الوثنيين، وأرسى دعائم قوية لاختيار إمامٍ للمسلمين كما فعل الفاروق عمر رضي الله عنه حتى رابع الخلفاء الراشدين.
وفي وصيته المشهورة التي يقول فيها: “إن النصر مع الصبر ..إني لا أدري هل أموت في هذا القتال أم لا! فإذا مت فاطلبوا إماما عالما زاهدا لا يجمع الدنيا لنفسه و لا لعقبه. و إذا رأيتموه قد كثرت أمواله، فاعزلوه و انهبوا أمواله، و إذا امتنع من العزل قاتلوه و اطردوه، لئلا يكون ملكا عضوضا يتوارثه الأبناء عن الآباء و ولوا مكانه غيره من أهل العلم و العمل من إي القبائل كان. و لا تتركوا الملك في قبيلة خاصة لئلا يدعوه ورثة بل ملكوا لكل مستحق”.
و عند ذكر الإمامة وأن يتولاها الأحق والأكفأ، ليس من الإنصاف تجاهل منهج المذهب الإباضي من هذه الأمة في انتهاج نفس الأسلوب الراشد في الدّول التي أقاموها ومن أطول التجارب تجربتهم في شرق الجزيرة العربية والساحل الشرقي لإفريقيا دون تجاهل نفس النهج في شمال إفريقيا.
ثانياً: جهاد الشيخ الحاج “عمر طال الفوتي” ضد الوثنيين والغزو الفرنسي في “الفوتا تورو” ، ثم شرقاً بأراضي مالي الحالية (1852 ـ 1864)، وقد خلفه ابنه “أحمدو” في مهمته لمدة ثلاثين عاماً وقد سار على خُطى الشيخ عمر الفوتيّ طال ”الإمام المجاهدُ مبابا جخو باه” (1809 ـ 1867م) في جهاده لإخضاع الوثنيين والطغاة، والإمام ”فودي كبا دومبويا” (1818 ـ 1901م) الذي اهتمَّ بنشر الإسلام في قبائل ”جولا” ومقاومة الفرنسيين.
وعند ذكر الشيخ الحاج عمر وطريقته التيجانية من الصوفية إلا أن نذكر المنتقدين أن الذي حافظ على بقاء أصل الإسلام في كثير من البلدان الإسلامية هو الطُّرُق الصوفيّة.
ثالثا: الجهاد الثقافي الإسلامي العظيم للشيخ محمود باه رحمه الله من مدينة جول قرب كيهيدي ولقد كان إمامًا عظيما في الحقل الثقافي وقاوم المستعمر مقاومة شديدة وانتصر رحمه الله بتأسيس مدارس الفلاح الإسلامية التي كان لها الدور الكبير في موريتانيا وفي غيرها من دول الغرب الإفريقي في الحفاظ على الهُوّيّة الإسلامية.
نعم ليس من الإنصاف ذكر هذا النّهر إلا وأن يذكر معه شعب إفريقي مسلم عظيم شارك في بناء القيم الإنسانية النبيلة وساهم في ركب الحضارة الإسلامية ولقد انبهر الرحالة الأوربيون في القرون الوسطى من شدة تنظيم المدن والقرى السنغالية واندهشوا من التكافل الاجتماعي ونسبة التعليم العالية بينهم.
أقول ولْيَعْلَمْ الجميع أنّ الفُلْبَه ليسوا دُخَلَاء في موريتانيا بل هم مواطنون أصلاء أصالة هذا النّهر الجاري من غينيا حتى مصبه في المحيط الأطلسي عند مدينة ئِنْدَرْ وكذلك مجتمع البيظان ليس وافدا بالأمس بل هو أصيل أصالة هذا النّهر وأصالة آدرار جبل لمتونة وتگانت وأگان وآفطوط إذ منهم شعب المورو الذي أخذت البلاد اسمها منهم. ولكن هل ياترى سيفيق دعاة النعرات القومية الجاهلية من كلا الطرفين؟؟؟
وسمّيناه نحن أهلَ البوادي والفرگان “لِبْحَرْ” نحن الذين لاتأتينا قطرة ماء من السماء إلا وكان مصيرها بعد رحلتها سيلا خلال الشعاب والأودية أن تصبُّ في وادي “گورگول لَخْظَرْ” أو “گورگول لَبْيَظْ” ويلتقيان عند مدينة لِگْصَيْبَه مُكَوِّنين رافدا مهما من روافد هذا النيل الجميل إذْيصب گورگول في النّهر عند مدينة كيهيدي عروس شمامة وذكريات طفولتي في أزقتها وساحتها الواسعة بين الدّشرة وتُلْدَه. كَما أنّ من روافده الموريتانية المهمة وادي كَرَكُورْ العظيم والذي ينبع من منطقة شمال شرق مدينة كيفه.
نحن أهل الفرگان لانقترب منه إلا في زمن شُحّ الأمطار وقلتها ونحن لا نأكل صيده إلّا أننا ننظر إلى هذا النيل باحترام عظيم بل نعتبره مركز العالم. نسمي ضفته الشمالية “اتْرَابْ البيظان” والضفة الجنوبية “اتْرَابْ لِكْوَرْ” ونعتبر أشقاءنا من لكور وبالذات الفُلْبَه سادة هذا النّهر ولهم الخبرة في التعامل معه وعندهم قوارب صغيرة بالمجاديف ومن أراد عبوره فلابد له من دليل منهم، ونسمي القارب ذا المجاديف بالصّيْدَحْ ونسمي الشراعي بالتَّامُونَانِتْ وقد كان يستخدم للسفر من مدينة إلى أخرى وأما القارب الذي له محرّك فندعوه “گارب الْمَا” أي قارب الماء تمييزا له عن “گارب السِّبْتَه” أي القطار القطار وعن “گارب السّْمَا” الطائرة.
وأمّا ساكنة الضفتين فلايرون هذا النّهر حدا بين دولتين أو بلدين بل تجد الأسرةَ الواحدةَ مقسمة نصفها على هذه الضفة ونصفها الآخر على الضفة الأخرى. وهذا مُزارع مزرعته على الضفة الجنوبية وداره على الضفة الشمالية وهكذا…
هذا النّهر العظيم إن كان منبعه من هضبة فوته جالون بغينيا متجها غربا حينا وشمالا حينا آخر في تعرّج شديد حتى يصب في المحيط الأطلسي إلا أنه حمل في الاتجاه المعاكس إلى منبعه وجبة كسكس، وما لايعرفه كثير من الناس أن وجبة كسكس قد سافرت في الاتجاه المعاكس مع هذا النّهر عبر العصور الغابرة حتى وصلت أعاليَه. وبالذات وجبة “باسي” الذي لايحتاج إلى بَرْمٍ أو فَتْلٍ، باسي هو قوت الناس بالليل ولاتخلو دار ولاكوخ ولاخباء من كَسْكَاسٍ فوق البخار عصر كل يوم حتى تصل منبع النّهر في فوته جالون وهو زاد النّاس في السّفر ويتقن القوم صناعته وتجفيفه وتخزينه.
ولقد حمل هذا النّهر كذلك في نفس الرحلة المعاكسة لتدفق مائه، حمل الإسلام الذي تولّى رفع رايته والتكفّل بحمل لوائه وإرساء دعائمه أقوى أمّة عرفها هذا النّهر أَلَا إنهم التكارير زوايا الفُلْبَه (الفلّان) فأرسوا دعائمه وأقاموا دولة الإمامة الإسلامية على ضفتيه وقرأوا القرآن وأقرأوه وأسسوا لباقي الشعوب الأخرى في غرب إفريقيا طريقة مبتكرة جميلة لتعلم القراءة والكتابة فيما نسميه نحن البيظان “تِيدِمْكِيتْ” وألَّفُوا الكتب الكثيرة الغزيرة في موضوعها في شتى العلوم الإسلامية وكان منها ماهو بلغتهم البولار ولقد زخرت بها مكتبات كثيرة منها مكتبات المخطوطات في تنبكتو المحروسة وقد أتلف المستعمر الفرنسي الكثير الكثير من تلك النفائس والدرر الإسلامية الثمينة وهم في كل كتاباتهم يستخدمون الخط العربي الذي تطور سريعا بعد شروق شمس الإسلام في بلاد العرب وحَمْلِهِم رسالةَ الإسلام إلى الشرق والغرب ليصبحوا به رعاةً للأمم من بعد أن كانوا رعاة الإبل والغنم متقوقعين متناحرين في شبه الجزيرة العربية. ومن أعظم معجزات الإسلام ظهور العرب المسلمين وترويضهم قادة عظماء، وكلما ضعف الوازع الديني فيهم رجعوا للجاهلية البغيضة التي نُهُوا عنها.
لقد كان احتكاكنا نحن مجتمعَ البيظان في القرون الأربعة الماضية التي لازالت الذاكرة الجمعية تحفظ كثيرا منها، كان احتكاكا كبيرا مع الفُلْبَه وبالذات أهل الترحال منهم أعني ئِفِلّان (الفُلَّان) وهم في مجملهم يتكلمون الحسّانيّة بطلاقة حتى يصعبُ عليك أن تميزهم إلا من لبسهم أو من الدواب التي تحت أيديهم حيث بقرهم أبيض ضخم له قرون طويلة جدا وأما ماعزهم فحجمه أصغر من ماعزنا وأما الضأن الذي بحوزتهم فلونه أحمر وليس له صوف ومساكنهم الأكواخ الإفريقية المشهورة التي تصنع من الشجر وبعض الحشائش الأخرى دون استخدام الطين فيها. تَشِمُ نساؤهم وجوههن وَشْمًا يختلف من منطقة لأخرى والمشهور منه وشم الشفتين وقد يَشِمْن الوجه طولا بدءا من منبت الشعر حتى الأنف بخط عريض.
وإنّ المتأمّل في وجوههم يستكشف بسهولة أن قسما كبيرا منهم لايحمل العلامات الوراثية للعرق الإفريقي أكثر من عرق آخر أبيض ومع ذلك إذا وصفنا الأبيض منهم قلنا ئِفِلّاني أحمر.
لم نستطع تعلّم لغة الفلّان والتي هي الپُولَارْ إلّا في المدن الواقعة على ضفاف هذا النّهر والتي كان من أشهرها عروس شمامة مدينة كيهيدي المحروسة والتي كانت بها طفولتي ودرست بها الابتدائية. ولقد كانت البوابةَ الأولى إلى السنغال لكل الناس القادمين من ولاية العصابة ومن تگانت وكذلك من أجزاء كثيرة من البراكنة هذا بالإضافة إلى أهل گورگول وحتى من الحوضين.
لقد كانت مدينة كيهيدي أنموذجا جميلا للجمهورية الإسلامية الموريتانية حيث كل الأعراق موجدة دون استثناء وقصبة المدينة تحت سيطرة السوننكي ومنهم إمام الجامع الكبير الذي كان مبنيا من الطين الخالص على طراز جوامع تنبكتو ولهم مدينتهم العتيقة وسط الدشرة وتحيط بهم الأحياء الأخرى وهم مجتمع زراعي مسالم طيب منغلق على نفسه في كثير من الأمور.
أمّا الفُلْبَه فقد كانوا ممتزجين اجتماعيا مع البيظان والحراطين ويتكلمون الحسّانيّة وهم حيويّون وإنتاجهم كثير ويعملون جميعا ويشاركون الناس في كل شيء ويتميزون بالصدق والكرم وعدم الرضا بالظلم. إذا حضر طعامهم عزموا على الناس جميعا ليشاركوهم. كان في كيهيدي منهم المؤدب المحتسب الذي يجوب الشوارع يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويؤدب كل طفل يستحق ذلك وتشكره الأمهات كثيرا على ذلك.
نسبة الذكاء فيهم عالية ويتقنون اللغة العربية ويتعلمونها بتفان وهم دائما متفوّقون في الدراسة.
لغتهم الپولارية لغة جميلة رصينة بديعة إذا سمعت الشيخ منهم يفسر القرآن يأتي بالآية يشرحها بلغة عربية فصيحة ثم يبدأ شرحها بلغتهم مما يضفي جمالا على المعاني والناس مطرقون.
لعبنا مع أطفالهم نتحدث معا حديثا نصفه بالحسانية وجزء منه بالپولارية وبعض الأحيان ندخل الفصحى وقد نستخدم الفرنسية لقد كنا أطفالا صغارا غايتنا اللعب وأن نتفاهم. كنا نحضر موسم المصارعة (الدَّزّْ أوْ أَطَيْعُوژْ) تحت قرع الطبول واستعراض الشباب عضلاتهم لقد كان ذلك عصر كل يوم ويدخل الصغار يتصارعون في ركن من الحلبة ولكنني لم أجرؤ يوما على دخولها.
لازلت أذكر صفارة القارب إذا وصل عند المرفإ الذي يطل عليه حي تُلْدَه ويدفعنا فضول الطفولة أن نسعى ركضا من حي غاتاغا حتى النّهر لقضاء خمس دقائق فقط لنرى أمرًا عجبا ورجالا ينزلون البضاعة وآخرين يستعدون للركوب ثم نرجع سريعا قبل أن يستكشف أمرنا.
لقد كان صيد السّمك “اِلتِّحْوَاتْ” ونسمي السّمك الحوت بل كلمة السّمك مهملة في الحسّانيّة لهذا المعنى، كانوا إذا أخرجوا الشباك وخلصوه من السمك تصدقوا على الحاضرين وكنا نحن أطفال البيظان في ذلك الزمن لانستطيع قبول السّمك لأن أهلنا لا يأكلونه أو على الأقل لايعرفون طبخه.
لقد كان من معالم مدينة كيهيدي شجرة اللبن “صَدْرَايْتْ الشّنينْ” تأتيها البدويات من ئفلان من القرى ظاهرَ المدينة بأوعية اللبن الرائب ويبعن لنا منه بأوقية وأوقيتين ونادر أن يشتري أحد بخمس أواق ونكرر كلمة “بَيْدُو” والتي تعني زدْ أو زِيدِي …
لقد كان فيضان هذا النّهر السنويّ مناسبة عظيمة لأهلنا الذين يزرعون ضِفَّتَيْه بعد انحسار الفيضان عنهما، إنّها شَمَامَه سلّة غذاء البلاد من محصول بِشْنَة التي هي غالب قوت الناس في فصل الصيف وهي صنف من الذرة البيضاء وأما أصناف الذرة البيضاء الأخرى والتي تضمّ تَغَلِّيتْ ولِبَّيْظَه و اِلشّْوَيْطْرَه تزرع في العوالي بالوديان التي تشكل الرافد الأساسي للنهر ويتم استعمالها عند الحصاد وفي فصل الشتاء.
ذكريات النّهر:
كلّ طفل تربّى في كيهيدي له ذكريات مع هذا النّهر لاتُنسى، والأهل يحذرون أطفالهم من السباحة في عمق النّهر خشية الغرق. ويقول الأهل دائما هذا النّهر لابد له كل عام من صيد من الناس فاحذروا أن تكونوا من صيده. أمّا الأطفال فقد كانوا يتفاخرون بمغامراتهم في النّهر وكانوا يسألونني فكنت أقول إنني أحسن السباحة في الغُدران بالبادية فقط والحقيقة أني لاأعرف من السباحة إلا القليل جدا مع جبن وخوف شديدين أمام الماء.
وفي إجازة السنة الثالثة من الابتدائية وجدت فرصة لاتُعوّض للذهاب إلى النّهر مع تلميذ قرآن يُحفظه والدي رحمه الله وكان في الرابعة عشرة من عمره واسمه نَجَّاهْ وكنت أنظر إليه بفخر كبير وأعتبره أخي الأكبر لأنه كان إذا سمع بمن يظلمني من الأطفال أراهم العين الحمراء.
خرجت معه صباح يوم أربعاء من شهر يوليو نبحث عن الْخَيْذِرْ وهو حمار أصيل جاء به والدي للمُكاراة حسب الاتفاق مع الحطابين ولكنه حمار شرس وذات ليلة قطع دِرْكَتَهُ وسرى إلى المجهول.
سمح لي الوالد بالذهاب معه وأمرنا أن نبحث في الجهة المعاكسة للبحر إلّا أنني احتلت على نجّاه وأقنعته بالذهاب إلى النّهر رجاء العثور على الحمار وأنها فرحة عظيمة تشفع عند الوالد.
وصلنا النّهر وكان منسوبه منخفضا جدا وعرض مجراه الذي يحتاج لسباحة في حدود ثلاثمائة متر فقط، رأينا أطفال التّكارير يتسابقون ذهابا وجيئة وأحسست في داخلي برغبة كبيرة كي أسجّل في التاريخ أني عبرت النّهر. لَمْ أزل بنَجّاهْ حتى أقنعته بأنني يمكنني وضع يدي على كتفه كي يساعدني حتى نعبر ناحية السنغال ونرجع. جلست. قلنا بسم الله ووضعت يدي على كتفه وبدأ هو يسبح وأنا يدي على كتفه وعندما وصلنا وسط النّهر بالضبط قال لي إنه قد تعب فلم أمهله بل تشبثت بعنقه بكلتا يديّ فقال لي ضع يدك على كتفي كما كنت ولا تخف إلا أنني كان الخوف قد تمكن من قلبي فلم أفعل، فما كان منه إلا أن نزل إلى قعر النهر وفجأة بدأت أحس أني أُغْصَبُ على شرب ماء النّهر كله، أطلقته أو أفلت هو منّي.
كانت ثوان كل ثانية منها بسنة كاملة حيث أصبحت أفكّر فقط في الحصول على أي شيء صلب أتشبث به. تذكرت الوالد وعهده الذي أخذه علينا وبدأ شريط من الذكريات يمر سريعا كالحلم، والدي، عمّتي، جدتي، شقيقي الصغير، خالي، مُدَرّسي الذي كان يفتخر بي ويقول لي أنت ياعمر سوف تكون مدير شركة مفّرما…
ثوان فيها سيل من الذكريات لاحصر له، تذكرت جيدا أن الإنسان إذا أحس بقرب الأجل فليكرر الشهادة، تذكرت والدي والمقبرة والعزاء ثم بدأت أتألم لأنني خنتُ الوعد….
وكنت أقفز وأصرخ ثم أسقط في الماء و “أُبَطْبِطُ” مثل الديك المذبوح وفجأة لمسني شيء صلب فتشبثت به فرفعني حتى خرج رأسي من الماء فإذا بي أرى خيال شخص في قارب صغير والذي أمسكه هو مجدافه.
خاطبني بلغة پولارية ملؤها العطف والحنان وقال لي اركب معي أخي الصغير اركب لقد نجوت والحمد لله، مسكت طرف القارب وركبت معه مطرقا رأسي للأرض لأنني خرجت من الدنيا ورجعت إليها ثانية ولقد نسيت قصة الْخَيْذرْ وبدأت أحاول استرجاع الواقع وأين أنا وهل هذا حلم أم يقظة؟ أسئلة كثيرة استغرقت دقيقة كاملة وصاحب القارب يتكلم بكل أدب ويهدّئ من روعي ويقول لي كل هؤلاء الأطفال قد مرّوا بتجربة غرق وإنما يغرق الشجاع الذي يقدم على التحدي وعندها بدأ أستوعب الموقف وبدأت أُدرك الذي جرى ولكنني كما نقول بالحسانية “حَشْمَانْ” نظرت إلى قدم صاحب القارب وإذا بخضابالحناء وأدركت بسرعة أنها فتاة يالَلْعَارْ !!!
كنت فكّرت قبل دخول الماء في تجنب كل أمر قد يفضحنا وقلت لنَجّاه هيّا نبتعد قليلا عن مكان ازدحام الأولاد وتخلصت من كل ملابسي مخافة أن يبقى أي أثر للجريمة. نعم إنها فتاة فبدأت أن أستر نفسي وأعدّل من جِلْستي في القارب …. لقد قربنا من الشاطئ الموريتاني رفعت رأسي نظرت فإذا عشرات من الأطفال في جوقة صاخبه منتظرين وصولي وتلك عادتهم مع كل غريق.
عندما أحسست أن الماء أصبح ضحلا وصرت أرى قعر النّهر قفزت من القارب كي يسترني الماء ومازدت الفتاة على كلمة واحدة وهي “چَرَامَه” أي شكرا وانتظرت حتى وصلت مكانا آمنا ثم رجعت للشاطئ السنغالي. لقد كان على الجانب الموريتاني قرية تُلْده وهي مطلة على النّهر بمسجدها الجميل والظاهر أن عندهم أهل حسبة ينقذون كل غريق وجاء أحد منهم وعندما رآه الأولاد وقفوا فنهرهم وأمرهم بالانصراف وتنحى عني جانبا حتى لبست ملابسي فجاءني ينظر يتفقد صحتي وأعطاني بعض النصائح وجلس غير بعيد مني مخافة أن يسخر مني الأولاد.
نظرت أبحث عن نجاه فرأيته على الشاطئ الآخر يلعب بالرمل وبعد دقائق عبر إلي راجعا ورجعنا إلى الدار وفي الطريق نبهته أن الأمر خطير جدا إذا علم الوالد فسيضربني أنا وهو وسوف يكون مظهره سيئا أمام والدته التي كانت حريصة جدا أن يتعلم ولدها ويحفظ القرآن….
يوميات فتى من صنهاجة جنوب موريتانيا
الحلقة الرابعة والعشرون
جميل جدا بارك الله فيك ايها الصنهاجي