يمثّل الخطاب الأخير للإمام محمود ديكو من الجزائر، متزامنًا مع بروز «تحالف قوى الجمهورية» (CFR)، محطة مفصلية جديدة في المسار السياسي للأزمة المالية، ويعيد طرح اسم ديكو كفاعل مركزي في معادلة الصراع بين الشعب والسلطة، وبين منطق القمع ومنطق المقاومة السلمية.
تأسيس تحالف قوى الجمهورية وسياقه
أُعلن عن «تحالف قوى الجمهورية» في ديسمبر 2025 باعتباره حركة مقاومة ديمقراطية وسرية نسبيًا، تقودها شخصيات سياسية ومدنية ودينية في الداخل والخارج، على رأسها الإمام محمود ديكو، وذلك في مواجهة سلطة عسكرية أحكمت قبضتها على المجال السياسي والإعلامي منذ سنوات. يعرّف القائمون على التحالف أنفسهم كـ«قوى حيّة، ومثقفين، وفاعلين سياسيين، وعسكريين جمهوريين، وقادة اجتماعيين، وأبناء جالية»، يعلنون أن المقاومة أصبحت «واجبًا وطنيًا» في ظل انهيار أمني، ومجازر، وقمع للحريات، وتدهور في الخدمات الأساسية، واستغلالٍ لخطاب السيادة لتغطية الفشل الداخلي.
في بيانه التأسيسي، يربط التحالف بين تدهور الدولة وبين ما يصفه بـ«التحالف السام بين النهب الاقتصادي والعسكرة والاتجار بالخوف»، ويطرح مسارًا بديلاً يقوم على عودة سريعة إلى النظام الدستوري عبر فترة انتقلالية قصيرة، وفتح حوار وطني شامل مع الحركات المسلحة سزاءً الأزوادية او الجهادية، وإعادة الحريات الأساسية، وحماية المدنيين، وإعادة بناء مؤسسة عسكرية مهنية غير أيديولوجية. بهذا المعنى، لا يقدم الـCFR نفسه كحزب انتخابي تقليدي، بل كإطار مقاومة منظمة تسعى إلى إعادة تأسيس قواعد اللعبة السياسية على أسس جمهورية وديمقراطية.
محمود ديكو: من المجلس الإسلامي إلى قيادة المقاومة
الإمام محمود ديكو ليس وجهًا جديدًا في الحياة العامة المالية؛ فهو أحد أبرز الشخصيات الدينية والسياسية في البلاد خلال العقدين الأخيرين. شغل منصب رئيس المجلس الأعلى الإسلامي في مالي بين 2008 و2019، ما منحه موقعًا مؤثرًا في تفاعل الدولة مع المرجعية الدينية، ومكّنه من قيادة تعبئات شعبية ضد سياسات وقوانين اعتبرها منافية للهوية الدينية والاجتماعية، وساهم ذلك في ترسيخ صورته كـ«إمام الشعب» في بلد ذي أغلبية مسلمة ساحقة.
سياسيًا، برز اسمه بقوة مع تأسيس حركة «تنسيقية الحركات والجمعيات وأنصار الإمام ديكو» (CMAS)، التي تحوّلت إلى أحد أهم أطر التعبئة ضد نظام الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا، وقادت احتجاجات حاشدة في 2020 شكّلت الخلفية الشعبية لتدخل الجيش وإسقاط النظام. لكن العلاقة بين ديكو والعسكر سرعان ما توترت، إذ اتجهت السلطة الجديدة إلى تحجيم نفوذه وتضييق الخناق على حركته، وتم حلها رسمياً بعد اعتقلال عدد من اعضائها.
اليوم، يعود ديكو إلى الواجهة من منفاه في الجزائر، ليس عبر حركة تعبئة ميدانية كـCMAS، بل كـ«مرجع أخلاقي وروحي» لتحالف قوى الجمهورية، ما يمنحه هامشًا مختلفًا: يجمع بين رصيده الشعبي والديني، وبين مسافة واعية عن العمل الحزبي المباشر، دون أن يتخلى عن الخطاب السياسي الواضح ضد الاستبداد والانفلات الأمني.
دور ديكو داخل CFR ورمزية عودته
قبول الإمام ديكو بأن يكون المرجع الأخلاقي والروحي للـCFR يمنح التحالف شرعية اجتماعية عميقة تتجاوز شبكات النخب السياسية التقليدية. فبالنسبة لشرائح واسعة من الماليين، يرتبط اسم ديكو بمرحلتين حاسمتين: إسقاط نظام كيتا عبر تعبئة احتجاجية غير مسبوقة، ثم رفضه الانخراط في منطق الانقلاب العسكري بوصفه حلًا نهائيًا للأزمة.
في المقابل، يُحرِج موقعه الجديد السلطة القائمة، إذ تجد نفسها أمام معارضة لا تقتصر على السياسيين في المنفى، بل تقودها شخصية دينية تحظى بقاعدة شعبية واسعة، وتتبنى خطابًا يزاوج بين الدعوة إلى السلم ورفض الظلم. كما يضع وجوده في الجزائر – وهي دولة لعبت أدوار وساطة تاريخية في أزمات مالي – بعدًا إقليميًا إضافيًا لأي مسار حوار أو تصعيد مستقبلي.
ضمن هذا السياق، يكتسب خطابه الأخير من الجزائر قوة مضاعفة: فهو من جهة رسالة تطمين للقاعدة الشعبية بأنه لا يزال حاضرًا في معركة إنقاذ الوطن، ومن جهة أخرى بيان اتهام ضمني للسلطة، يندد بالاعتقالات، والتخويف، ومصادرة الحق في الكلمة، وقطع الجسور مع دولة جارة بسبب حسابات سياسية ضيقة.
الخطاب الكامل للإمام محمود ديكو
في ما يلي نص الخطاب الذي ألقاه الإمام محمود ديكو، كما ورد في رسالته الأخيرة الموجهة إلى الشعب المالي من الجزائر، متزامنًا مع تصاعد الحديث عن تحالف قوى الجمهورية ودوره فيه:
«أخاطبكم اليوم لأُوضِّح لكم بعض المعلومات التي سمعتموها في الأيام الأخيرة. أخرج أيضًا لأوجِّه إليكم نداء. في هذه الأيام، سمعتم كثيرًا من الكلام في التلفزيون، وفي الإذاعة، وفي وسائل الإعلام عمومًا.
بالفعل، جاءني بعض الماليين ليتحدثوا إليَّ عن مبادرتهم الهادفة إلى وضع حدٍّ للمعاناة وعمليات القتل الجارية، حتى نتمكن معًا من إيجاد حل يضع حدًّا لهذا الوضع ويُعيد السلام. إذا كان هذا هو هدفهم، فأنا مُلزَم بمرافقتهم.
يوم وصولي إلى هنا، كانت السلطات على علم بالأمر. كانوا يعرفون كل شيء. عندما غادرتُ البلاد، لم أقتل أحدًا، ولم أسرق المال العام، ولست مرتبطًا بأي تنظيم ولا بأي مجموعة تسعى إلى زعزعة استقرار البلد. السلطات تعلم ذلك، وتعلمه أكثر من غيرها. لقد دُعيتُ كما دُعيت هي، وكانت على علم بكل شيء.
ومع ذلك، دخلت هذه السلطات في خصومة مع هذا البلد، الجزائر. ومنذ ذلك اليوم وهم لا يتفاهمون مع هذا البلد، إلى اليوم.
في اليوم الذي أُعلن فيه عن عودتي إلى البلاد، مع أنني لم أقل شيئًا ولم أُعلن شيئًا، تم اعتقال الشخص الذي نشر الخبر وهو عائد من المسجد. اختفى لمدة أربعة أشهر، دون أن يُعرف إن كان حيًّا أم ميتًا.
في اليوم المعلن لوصولي، حشدوا أكثر من 1600 من أفراد الشرطة والدرك وغيرها من القوى الأمنية في مطار مالي. في ذلك اليوم، كل من صادفوهم وقال إنه ذاهب لاستقبال ديكو تم اعتقاله. وحتى الآن، ما يزال بعضهم في السجن.
لذلك، حين يأتي إليّ أشخاص ويطلبون أن نضع حدًا لهذا الوضع، وأن نتحاور بصدده، بينما هناك قتلى كثيرون وتدمير للممتلكات، أجبتهم بأنني أتقاسم وجهة نظرهم. هذا ما سمعتموه.
لذا، أوجّه نداءً للجميع: انهضوا، لنجتمع، لا ضد مجموعة من الأشخاص ولا ضد أفراد، ولا للاعتداء على أحد، بل لكي تنتهي الحال التي يعيشها بلدنا اليوم. الجميع يعاني. لا يمكن أن نعيش في بلد لم يعد أحدٌ فيه قادرًا على الكلام.
لنتحاور، لنتناقش فيما بيننا. لندعُ الله أن يعيد السلام، لأنه لا شيء ممكنًا دون السلام. لنتحاور حتى يكون لنا معًا بلدٌ آمن. هذا هو هدفي.
ندائي موجّه إلى الجميع، إلى كل الفلان، في مالي وخارجها. أنا أساند هذه المبادرة، وأريد أن يعلم الجميع ذلك. وأدعو كل فرد إلى الانخراط فيها.
نسأل الله أن يعيننا، وأن ينصر الدين، وأن ينصر السُّنّة. نسأله أن يجعلنا من عباده الذين يخدمون دينه إلى أن نلقاه. وكل من ليس مع الله، نسأل الله ألا ينال عونه أبدًا.
أقولها وأكرّرها: لستُ مع من ليس مع الله. أنا لا أكنّ عداوة لأحد، لكن ما لا أقبله هو إهانة الدين أو إهانة النبي. لن أتحالف أبدًا مع من يسيئون إلى النبي.
لهذا السبب حاربوني هم ومن معهم. هؤلاء أُفوّض أمري فيهم إلى الله. لقد حاربوني، وأنا أتوكل على الله.
هذا نداء إلى الجميع من أجل إنهاء هذا الوضع.»
هذا الخطاب يمزج بين السرد الشخصي لتجربته مع السلطة – من خروجه إلى الجزائر، إلى التضييق على أنصاره في الداخل – وبين خطاب تعبئة أخلاقية يدعو إلى «القيام» و«الاجتماع» لا من أجل إسقاط أشخاص بعينهم، بل لإنهاء حالة الخوف والعنف والصمت القسري. يربط ديكو بين نداء الوحدة، خاصة للمجتمع الفولاني داخل مالي وخارجها، وبين مرجعيته الدينية القائمة على خدمة الدين ورفض التحالف مع من يمسّ بالدين أو بالرسول، وهو ما يضفي على خطابه بعدًا تعبويًا مضاعفًا، دينيًا وسياسيًا في آن واحد.
خاتمة مفتوحة على مستقبل مالي
من خلال هذا التموضع الجديد، يعيد الإمام محمود ديكو رسم حدود أدواره بين الديني والسياسي، جامعًا بين تجربة إسقاط نظام كيتا عبر CMAS وبين مسعى جديد لتأطير المقاومة ضد الحكم العسكري ضمن إطار جمهوري سلمي منظم هو تحالف قوى الجمهورية. مستقبل هذا التحالف – ومدى قدرته على تحويل هذا الخطاب إلى ميزان قوة فعلي على الأرض – سيتوقف على قدرة رموزه، وفي مقدمتهم ديكو، على حماية استقلاليتهم، وتفادي تكرار سيناريو الاحتواء أو التصادم العبثي، وفتح أفق سياسي يضع حدًا لدائرة الانقلابات والانتقامات.
