يشكّل كتاب «النزاع في مالي وتداعياته على موريتانيا» للباحث محمد الأمين ولد أخليهن، الصادر عن المركز الموريتاني للدراسات الاستراتيجية والبحوث في سبتمبر 2025، إضافة علمية مميزة في حقل الدراسات الأمنية والسياسية المعاصرة في منطقة الساحل الإفريقي.
ينطلق المؤلف من فرضية أساسية مفادها أن ما يجري في مالي منذ عام 2012 لا يمكن فهمه بمعزل عن السياق الإقليمي الأوسع، وعن التفاعلات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية التي جعلت من هذا البلد محورًا لتقاطع المصالح الدولية وصراع الهويات المحلية.
يقدّم الكتاب قراءة تحليلية معمقة في جذور النزاع المالي-الأزوادي، منذ بدايات التهميش التاريخي لأزواد مرورًا بثورات الأزواديين ،1963، 1990، 2006، وصولًا إلى ثورة 2012 التي أعلن فيه قيام “دولة أزواد”.
وصولًا إلى تغلغل الجماعات الجهادية وتكرار الانقلابات العسكرية التي أضعفت مؤسسات الدولة.
كما يستعرض خريطة الأطراف المتنازعة – من الحكومة المركزية والحركات الأزوادية إلى الجماعات الجهادية وتنظيمات التهريب – مبرزًا طبيعة التحالفات المؤقتة والتداخل بين البعد القومي والديني، وكيف تحوّل الصراع من أزمة داخلية إلى حرب إقليمية ذات امتدادات اقتصادية وأمنية عابرة للحدود.
أما على مستوى موريتانيا، فيتناول المؤلف انعكاسات هذا النزاع على أمنها القومي واستقرارها الداخلي، نظرًا لما يجمع البلدين من حدود جغرافية طويلة، ووشائج قبلية وثقافية متداخلة.
ويخلص إلى أن استمرار الأزمة المالية دون تسوية شاملة يجعل موريتانيا أمام تحديات أمنية متزايدة، تستدعي مقاربة شاملة تقوم على الحياد الإيجابي، والدبلوماسية الوقائية، والتنمية الحدودية، بما يضمن صون استقرارها وترسيخ مكانتها الإقليمية في منطقة الساحل المضطربة..
الفصل الأول: جذور الصراع في مالي
يبدأ هذا الفصل بقراءة معمقة للأسباب التاريخية والهيكلية للأزمة، محددًا أربعة محاور رئيسية:
- التهميش التاريخي للمناطق الأزوادية
أكد المؤلف أنه منذ استقلال مالي سنة 1960، عانى الطوارق والعرب في أزواد من إقصاء منظم من المناصب السياسية والعسكرية، وحرمان مناطقهم من التنمية والخدمات.
رسّخ هذا الواقع شعورًا بالاغتراب والانفصال لدى سكان أزواد الذين رأوا في الدولة المالية كيانًا ” مفروضاً عليهم”.
مشيرا إلى أنه تكررت الثورات: 1963، 1990، 2006، وصولًا إلى تمرد 2012 الذي أعلن فيه قيام “دولة أزواد”.
- الفراغ الأمني وتغلغل الجماعات الجهادية
أدّى انسحاب الجيش المالي من أزواد عام 2012 حسب الدراسة « إلى فراغ أمني ملأته جماعات مثل أنصار الدين والقاعدة وكتيبة ماسينا.»
وجدت هذه التنظيمات بيئة خصبة بين المجتمعات المهمّشة كالفلان، فتبنّت خطابًا دينيًا-اجتماعيًا يدمج الجهاد بالتنمية المحلية.
- الانقلابات العسكرية وفوضى الحكم
تطرقت الدراسة الى أن مالي قد عرفت ثلاثة انقلابات خلال عقد واحد (2012، 2020، 2021)، مما أطاح بالمسار الديمقراطي، وأفقد الدولة تماسكها، وأضعف قدرتها على التفاوض وتنفيذ الاتفاقيات.
الفصل الثاني: خريطة الأطراف الفاعلة في النزاع
يرصد الباحث بدقة بنية الصراع ويقسم الفاعلين إلى ثلاثة مستويات:
الدولة المالية – الحركات الأزوادية – الجماعات الجهادية، مع ذكر القوى الخارجية الداعمة.
- الدولة المالية والمجلس العسكري
تمثلها سلطة الانقلابي أسيمي غويتا بعد انقلابَي 2020 و2021.
تعتمد على دعم روسي مباشر (فاغنر ثم الفيلق الإفريقي)، وعلى علاقات أمنية مع تركيا (طائرات بيرقدار TB2)، والصين (مشاريع البنية التحتية)، والإمارات (استثمارات).
تواجه تحديات داخلية كبرى:
-فقدان السيطرة على أزواد.
-انقسام الجيش بين جناح موالٍ لروسيا وآخر لتركيا والإمارات.
-أزمة اقتصادية حادة (ديون متراكمة، عجز عن دفع التزامات سد مانانتالي).
-توتر مع الجزائر بعد إلغاء اتفاق السلام في يناير 2024.
- الحركات الأزوادية
تشمل الحركات الأزوادية حسب الدراسة ثلاث قوى رئيسية:
1- الحركة الوطنية لتحرير أزواد (MNLA) – علمانية الطابع.
2- المجلس الأعلى لوحدة أزواد (HCUA) – ذو توجه ديني معتدل.
3- الحركة العربية الأزوادية (MAA) – تمثل عرب أزواد.
توحّدت هذه القوى سنة 2014 ضمن تنسيقية الحركات الأزوادية (CMA).
مرّت بثلاث مراحل مفصلية:
- من الانفصال إلى الحكم الذاتي ضمن إطار مالي.
- اتفاق الجزائر 2015 (حكم ذاتي موسع، إدماج المقاتلين، لامركزية).
- انهيار الاتفاق وإعادة القتال بعد انقلاب 2020، ثم إعلان جبهة تحرير أزواد (نوفمبر 2024) ككيان موحد لجميع الحركات الأزوادية سياسيًا وعسكريًا.
- الجماعات الجهادية
يشمل هذا المحور أبرز الفصائل:
- أنصار الدين (إياد أغ غالي).
- كتيبة ماسينا (أمادو كوفا).
- المرابطون والقاعدة ببلاد المغرب الإسلامي.
- تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى (ISGS).
شهدت هذه الجماعات تحوّلًا استراتيجيًا بعد 2017، حين اندمجت – ما عدى داعش – تحت راية جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (JNIM).
أصبحت أكثر محلية في نشاطها، مركزة على كسب الحاضنة الاجتماعية بدل الصراع العقائدي العالمي.
- التداخل بين الحركات الأزوادية والجهادية
يرى الباحث أن الصراع تجاوز ثنائية “انفصال – تطرف”، فالتداخل بين الأجندتين (القومية والدينية) أصبح واقعًا ميدانيًا.
تحالفات ظرفية جمعت JNIM وتنـسيقية أزواد ضد الجيش المالي ومرتزقة فاغنر، واشتهد في التعاون بين الحركات الأزوادية الجهادية بمعركة وكادو (أبريل 2024).
لكن هذه الواقعة بدلا من إعتبارها دليل على حسن العلاقة بين هذه الحركات فهي في الحقيقية دليل على خلاف حاد بينها، وكانت بين الإطار الاستراتيجي الدائم للدفاع عن الشعب الأزوادي و جماعة نصرة الإسلام 5 أبريل 2024 وقتل فيها عدد من خيرة أبناء أزواد غدراً .
وتم تكوين فريق من قادة المجتمع الأزوادي بقيادة العباس اغ انتالا مسؤول المصالحة في الإطار الاستراتيجي الدائم من أجل التوصل إلى وقف إطلاق النار بين الطرفين .
الفصل الثالث: الصراع العرقي في الوسط المالي (الدوغون – الفلان)
يتناول هذا الفصل وجهاً موازياً للأزمة لا يقل خطورة عن الصراع في أزواد، وهو الصراع الإثني في ولايتي موبتي وسيغو بين:
-الدوغون (المزارعون المستقرون)
-الفلان (الرعاة الرحّل)
منذ 2015، أنشأ الدوغون ميليشيا “دان نا أمباساغو” بحجة الدفاع عن القرى ضد الجهاديين، لكنها تحولت إلى ميليشيا انتقامية نفذت مجازر مثل أوغوساغو (2019) وسوبانو (2019).
أدى ذلك إلى دوامة عنف متبادل، وتوسع التنظيمات الجهادية بين صفوف الفلان الذين شعروا بالاضطهاد.
وأدى غياب الدولة وسوء إدارة الموارد الطبيعية (الأرض والماء) إلى حرب أهلية إثنية، تمثل أخطر تهديد للوحدة الاجتماعية في ماسينا.
الفصل الرابع: العلاقات الموريتانية – المالية وسياق التأثر
يُفرد الباحث هذا الفصل لدراسة العلاقات التاريخية والجغرافية والاجتماعية بين البلدين، ويبين أن ما يجمعهما أكثر مما يفرّقهما:
- تاريخ مشترك منذ إمبراطوريتي غانا ومالي.
- روابط قبلية وثقافية ودينية قوية (الطوارق، الفلان، السوننكي، العرب).
- تبادل تجاري كثيف (ميناء نواكشوط، الماشية، الزراعة، الأسواق الحدودية).
لكن هذه الروابط أصبحت عرضة للتآكل بسبب تداعيات الحرب في مالي، خاصة في المناطق الحدودية الشرقية من موريتانيا (الحوضين والعصابة وكيدماغا).
الفصل الخامس: تداعيات النزاع على موريتانيا
- التدهور الأمني على الحدود
أكدت الدراسة أنه تكررت حوادث قتل رعاة موريتانيين داخل الأراضي المالية منذ 2022، على يد مرتزقة فاغنر والجيش المالي، مما فجر أزمة دبلوماسية حادة.
ردت نواكشوط باستدعاء السفير المالي (أبريل 2024)، وفرضت قيودًا على دخول المهاجرين الماليين.
- التوتر السياسي والدبلوماسي
اتهمت باماكو موريتانيا بدعم الحركات الأزوادية واستضافة قادتها، فيما نفت نواكشوط ذلك وأكدت أن تحركاتها “إنسانية وليست سياسية”.
أوفدت موريتانيا بعثات دبلوماسية وعسكرية لتجنب التصعيد، ورفعت مستوى التأهب على حدودها الشرقية.
- تباين المقاربات الأمنية
موريتانيا تتبنى منذ 2011 سياسة أمنية وقائية: منع تسلل الجماعات الجهادية إلى أراضيها دون الانخراط في مواجهات خارجية.
مالي تعتمد النهج العسكري والهجومي بالتعاون مع روسيا.
هذا التباين جعل التنسيق الأمني محدودًا رغم الروابط القوية.
- الدور الإقليمي والدولي
أدت التنافسات الدولية (روسيا، فرنسا، تركيا، الصين) إلى مزيد من التعقيد في علاقة البلدين، إذ ينظر كل طرف إلى الصراع بعدسة أمنه القومي وموقعه في ميزان النفوذ في الساحل.
الخاتمة
يخلص الباحث إلى أن:
الصراع في مالي هو نتاج فشل بنيوي في بناء الدولة الوطنية وإدارة التنوع العرقي والاقتصادي.
التدخلات الأجنبية عمّقت الأزمة بدل حلها.
موريتانيا بحكم الجغرافيا والمجتمع هي الطرف الأكثر هشاشة أمام ارتدادات النزاع، وعليها أن تتعامل بذكاء وحياد.
أهم التوصيات:
- تبني مقاربة ثلاثية الأبعاد: أمنية – دبلوماسية – تنموية.
- تعزيز مراقبة الحدود مع فتح قنوات اتصال إنساني وتجاري مع سكانها.
- العمل ضمن أطر إقليمية مرنة (الساحل، الاتحاد الإفريقي) بعيدًا عن الاستقطابات الدولية.
- تنويع الشراكات الدولية وعدم الارتهان لمحور واحد (لا الروسي ولا الفرنسي).
- الاستثمار في التنمية المحلية لمناطق الحوض والعصابة وكيدماغا لتجفيف منابع التطرف.
