لم يعد المشهد في مالي مجرد أزمة عابرة أو صراع تقليدي بين دولة وجماعات مسلحة. ما نشهده اليوم هو تفكك ممنهج لكيان الدولة، وانهيار كامل لمفهوم العقد الاجتماعي، وتحول السلطة الحاكمة في باماكو إلى آلة حرب لا تستهدف “الإرهاب” كما تدعي، بل تستهدف مكونات أصيلة من شعبها في إطار سياسة “الأرض المحروقة” التي تهدف إلى التطهير العرقي ونهب الثروات تحت غطاء “مكافحة الإرهاب” وبدعم مباشر من مرتزقة أجانب.
إن سيل التحذيرات الدولية المتلاحق، الذي يدعو الرعايا الأجانب إلى المغادرة الفورية، ليس مجرد إجراء احترازي، بل هو بمثابة إعلان وفاة سريري للدولة المالية، وإقرار دولي بفقدانها السيطرة والشرعية.
🔹 أولًا: شرارة الانهيار — حصار اقتصادي أم فشل سياسي؟
بدأت فصول الأزمة الأخيرة بحصار خانق فرضته “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” (JNIM) منذ سبتمبر 2025، مما أدى إلى شلل شبه تام في العاصمة والمدن الكبرى.
لكن اختزال الأزمة في حصار الجماعات المسلحة هو تبسيط مخل، إذ كشف هذا الحصار عن الهشاشة المطلقة للمجلس العسكري الحاكم وعجزه الفاضح عن تأمين أبسط مقومات الحياة لمواطنيه.
إن فشل الجيش المالي، المدعوم بـ”الفيلق الإفريقي” الروسي، في تأمين قوافل الإمداد رغم مرور أسابيع، يطرح سؤالًا جوهريًا:
هل هو عجز عسكري أم تواطؤ سياسي يهدف إلى خلق أزمة إنسانية لتبرير حملة عسكرية واسعة النطاق، تستهدف المدنيين في أزواد أكثر مما تستهدف الجماعات المسلحة؟
🔹 ثانيًا: حرب على المدنيين — الطائرات المسيرة أداة للتطهير العرقي
تحول المشهد سريعًا من أزمة وقود إلى حملة قصف جوي ممنهجة ضد المدنيين.
تشير بيانات مشروع النزاع المسلح (ACLED) إلى أن 65% من ضحايا العنف في يوليو 2025 كانوا مدنيين، وأن أكثر من 95% من الغارات الجوية منذ 2023 استهدفت أشخاصًا لا علاقة لهم بالصراع.
الهجوم على عائلة بأكملها في منطقة تمبكتو ليلة 24 أكتوبر 2025 بطائرة مسيرة لم يكن حادثًا عرضيًا، بل جزءًا من نمط ثابت لسياسة إبادة.
إن استخدام طائرات “بيرقدار” التركية لقصف المدنيين في غاو وكيدال وتمبكتو هو جريمة حرب مكتملة الأركان، تُنفذ تحت أنظار العالم المتواطئ بصمته، في ظل دعم روسي واضح للنظام الحاكم في باماكو.
🔹 ثالثًا: ذهب أزواد — وقود الحرب ولبّ الصراع
في عمق هذه الحرب الدموية، تكمن معركة السيطرة على الموارد.
الصراع حول منجم الذهب في “انتهاكا” كشف الوجه الحقيقي للنظام العسكري. فبعد طرد المنقبين المحليين وتسليم المنجم لشركة “سورم مالي” (SOREM)، سارعت “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” للسيطرة عليه في 24 أكتوبر 2025.
تتهم أوساط أزوادية النظام الحاكم بالسعي إلى تمويل مرتزقته الروس عبر نهب ثروات الإقليم.
وقد رفضت “جبهة تحرير أزواد” القرار وعدّته “نهبًا منظّمًا”، مما يؤكد أن الصراع تجاوز البعد الأمني ليصبح معركة هوية وسيادة على الأرض والثروة.
إنها ليست حربًا على الإرهاب، بل حرب على ذهب أزواد، وعلى حق سكانه في امتلاك أرضهم وثرواتهم.
🔹 رابعًا: ولادة جديدة للمقاومة — صعود جبهة تحرير أزواد
من رحم المأساة، وُلدت مقاومة جديدة أكثر تنظيمًا ونضجًا سياسيًا.
تحولت “جبهة تحرير أزواد” إلى قوة ميدانية فاعلة، تستخدم الطائرات المسيرة الانتحارية كما حدث في الهجوم على مركز التحكم بالمسيرات في كيدال.
لكن الأهم من ذلك هو الخطاب السياسي الواعي الذي يقدمه قادة الجبهة مثل عبد الكريم آغ ماتافا، الذي يفضح زيف “الحرب على الإرهاب” ويؤكد أن القضية هي نضال شعب من أجل الحرية والعدالة.
أما انشقاق الجندي “آغ هوكاتاني” عن الجيش المالي بعد مقتل عمه على يد رفاقه، فهو دليل على التصدع العميق في المؤسسة العسكرية، وعنوان لفشل الدولة في بناء هوية وطنية جامعة.
🔹 خامسًا: حتمية الاعتراف بالواقع الجديد
إن ما يجري اليوم هو نتيجة حتمية لعقود من القمع والتهميش والإنكار.
لقد أثبت المجلس العسكري أنه لا يسعى لبناء دولة بل للاحتفاظ بالسلطة والثروة ولو على أنقاض الوطن.
المجتمع الدولي، الذي أصدر شهادة وفاة ضمنية للدولة المالية، مطالب الآن بتجاوز مرحلة التحذير إلى الفعل.
فلا يمكن دعم نظام فقد شرعيته وارتكب جرائم ضد شعبه، بل يجب الاعتراف بالواقع الجديد على الأرض والتعامل مع القضية الأزوادية كقضية سياسية عادلة لشعب يطالب بحقه في الحياة والسيادة.
رؤية تكتل “حصن المتين”: اتفاق الجزائر هو طوق النجاة
من قلب هذا الانهيار، يؤكد تكتل حصن المتين أن طريق باماكو القائم على القوة الغاشمة والتحالف مع المرتزقة طريق مسدود.
لقد أصبح الحل العسكري المحرّك الأساسي لسياسة الأرض المحروقة التي تدمر الإنسان والأرض في آن واحد.
إننا نؤمن أن الطريق الوحيد للخلاص هو العودة إلى اتفاق السلم والمصالحة في مالي المنبثق عن مسار الجزائر (2015)، الذي يمثل المرجعية السياسية والقانونية الوحيدة القادرة على إعادة بناء الدولة وإنقاذ ما تبقى من وحدتها.
هذا الاتفاق لم يكن مجرد وثيقة، بل توافقًا تاريخيًا يعترف بعمق الأزمة السياسية والهووية، ويطرح حلولًا حقيقية عبر:
اللامركزية في الحكم،
دمج أبناء الشمال في المؤسسات،
توزيع عادل للثروة والتنمية،
واحترام الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لأزواد.
إن تنكّر المجلس العسكري لهذا الاتفاق هو الخطيئة الأصلية التي فجرت البركان الحالي.
لذلك فإن أي حل لا يمر عبر بوابة الجزائر هو مجرد سراب.
وندعو اليوم كافة القوى الوطنية في مالي، ومكونات إقليم أزواد، والمجتمع الدولي، وفي مقدمته الجزائر الشقيقة، إلى إدراك هذه الحقيقة والعمل من أجل إحياء اتفاق الجزائر كمرجعية وحيدة للسلام العادل والدائم.
🕊️ الخلاصة
إما العودة إلى حكمة اتفاق الجزائر،
وإما الغرق أكثر في دوامة الدم والدمار التي لن تبقي ولن تذر.
بقلم/ شتوان جلول رئيس تكتل حصن المتين
