
يُعدّ تقرير المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود (GI-TOC) الصادر في أكتوبر 2025 من أهم الدراسات التي تناولت ظاهرة الشركات العسكرية الخاصة في إفريقيا، مع تركيز خاص على مجموعة فاغنر الروسية في مالي. التقرير يقدّم رؤية تحليلية معمّقة تربط بين توسّع نشاط فاغنر، تفاقم الانتهاكات ضد المدنيين، وتفكّك منظومات الرقابة الدولية على تجارة الأسلحة.
تحوّلات المشهد المالي بعد 2021
وفقًا لتقرير GI-TOC، مثّل عام 2021 نقطة تحوّل جذرية في المشهد الأمني المالي-الأزوادي. فبعد الانقلابات المتكررة وانسحاب القوات الفرنسية وقوات الأمم المتحدة (مينوسما)، استدعت الحكومة العسكرية مجموعة فاغنر الروسية لتكون شريكًا أمنيًا جديدًا.
لكن سرعان ما تحوّلت “المهمة التدريبية” إلى حرب قذرة ضد المدنيين، حيث وثّقت المنظمة، استنادًا إلى بيانات الأمم المتحدة، تصاعدًا خطيرًا في العنف ضد السكان المحليين، لاسيما من أصول فولانية وتوارقية، مع تضاعف أعداد القتلى المدنيين بين عامي 2021 و2024.
فاغنر وسلسلة إمدادات السلاح
يؤكد تقرير المبادرة العالمية (GI-TOC) أنّ فاغنر لم تدخل مالي مزوّدة بالأسلحة الثقيلة، بل اعتمدت على مصادر محلية، أبرزها مخازن الجيش المالي (FAMa).
وبالاستناد إلى تحليل أكثر من 160 صورة وفيديو، وثّقت المنظمة استخدام فاغنر لمركبات مدرعة وأسلحة تم استيرادها خصيصًا لصالح الجيش المالي من دول مثل فرنسا، الصين، نيجيريا، والإمارات العربية المتحدة.
هذه الحالات تُعدّ، بحسب التقرير، خرقًا صريحًا لمعاهدة تجارة الأسلحة (TCA)، لأن فاغنر ليست جهة “مستخدم نهائي” مصرحًا لها باستخدام هذا العتاد.
العلاقة المتوترة مع الجيش المالي
توضح GI-TOC أنّ التعاون بين فاغنر والجيش المالي بدأ بانسجامٍ نسبي قبل أن يتحوّل إلى صدامٍ علني بسبب استيلاء المرتزقة الروس على الأسلحة والمعدات.
وقد سجّلت المنظمة عدة حوادث توتر ميداني، منها مقتل جندي مالي في أنسونغو (يناير 2025) على يد عنصر من فاغنر إثر خلاف على غنائم.
كما نقل التقرير عن ضباط من الجيش المالي قولهم إن عناصر فاغنر “كانوا يستخدمون العربات والآليات الحكومية دون إذن، وينفذون عمليات مستقلة تمامًا”، وهو ما كرّس الانقسام بين الطرفين.
اضطراب سوق السلاح في أزواد
ترصد المبادرة العالمية (GI-TOC) أثرًا غير مباشر لفاغنر على الأسواق الإجرامية في الساحل الإفريقي.
فقد أدّت العمليات العسكرية المكثفة إلى تعطيل طرق تهريب الأسلحة التقليدية من ليبيا وموريتانيا، مما رفع أسعار البنادق الآلية AK-47 بنسبة تجاوزت 200%.
وتلاحظ المنظمة أن هذا النقص في العرض دفع بعض عناصر الجماعات المسلحة إلى بيع الأسلحة المصادرة أو المخزنة في مناطق التعدين لتحقيق مكاسب مالية، ما يزيد من هشاشة الوضع الأمني.
من الانتهاك إلى “تسليع العنف”
تكشف GI-TOC جانبًا صادمًا من ممارسات فاغنر في مالي: تحويل الجرائم إلى وسيلة ربح.
فقد عثرت المنظمة على قنوات مغلقة عبر تطبيق تلغرام يديرها عناصر سابقون من فاغنر، يبيعون فيها مقاطع فيديو توثّق عمليات إعدام وتعذيب ضد المدنيين في أزواد وماسينا نفذوها خلال عملياتهم الاجرامية .
هذا السلوك، كما تشير المؤسسة، يمثل دمجًا بين الجريمة المنظمة والارتزاق العسكري، ويكشف البعد التجاري للعنف في الحروب الحديثة.
البعد القانوني والأخلاقي
تشير المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود (GI-TOC) إلى أنّ نقل الأسلحة من الجيش المالي إلى فاغنر يرقى إلى انتهاك للقانون الدولي ولشروط معاهدة تجارة الأسلحة.
كما تتحمل الدول المصدّرة – فرنسا، الصين، نيجيريا، الإمارات، وتركيا – مسؤولية تشاركية بسبب تقصيرها في مراقبة المستخدم النهائي لمبيعاتها.
ويؤكد التقرير أن هذه الثغرات القانونية تجعل من الشركات العسكرية الخاصة “جسرًا” لتدوير السلاح بين الدول والجماعات غير النظامية.
من فاغنر إلى “الفيلق الإفريقي”
بحسب GI-TOC، فإن انسحاب فاغنر المعلن من مالي في يونيو 2025 لم يكن سوى إعادة هيكلة شكلية.
فقد حلت محلها وحدة جديدة تُدعى الفيلق الإفريقي Africa Corps تتبع رسميًا لوزارة الدفاع الروسية، لكنها تضم غالبية عناصر فاغنر السابقين.
وترى المؤسسة أن هذا التحوّل لا يغيّر جوهر المشكلة: استمرار النفوذ الروسي في الساحل تحت غطاءٍ أكثر “شرعية” ظاهريًا.
توصيات المؤسسة
اختتمت المبادرة العالمية (GI-TOC) تقريرها بجملة توصيات محورية:
- على الدول المصدّرة للأسلحة فرض تدقيق أعمق (Due Diligence) في تعاملاتها مع البلدان التي تتعاون مع شركات عسكرية خاصة.
- ضرورة تحديث اتفاقية الاتحاد الإفريقي لعام 1977 لتشمل المرتزقة المدعومين من دول كبرى.
- إلزام بعثات الأمم المتحدة بإزالة أو تدمير معداتها العسكرية عند انسحابها من مناطق النزاع.
- إدراج ملف الشركات العسكرية الخاصة في المنتديات الدولية حول حظر الانتشار غير المشروع للأسلحة.
خاتمة
يرى تقرير المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود أنّ تجربة مالي تكشف هشاشة النظام الدولي في مواجهة ظاهرة “الخصخصة العسكرية”.
فبينما يُعاد تعريف الحرب لتصبح “خدمة مدفوعة”، تُفكّك القواعد التي صُممت لحماية المدنيين وضبط تجارة السلاح.
إن ما جرى في مالي ليس استثناءً، بل نذيرٌ بمستقبلٍ يندمج فيه الارتزاق بالسياسة، ويصبح العنف تجارةً تُدار من العواصم عبر تطبيقات ومؤسسات خاصة.
المصدر: تقرير صادر عن المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود (GI-TOC)