
أثارت تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، خلال لقائه مؤخراً مع عدد من وسائل الإعلام العربية، موجة من النقاش حول الدور الروسي في منطقة الساحل الإفريقي، لاسيما ما يتعلق بوجود الفيلق الإفريقي في مالي والعلاقات المتشابكة بين دول المنطقة. فقد أكد لافروف أن “الفيلق الإفريقي” هو وحدة تابعة لوزارة الدفاع الروسية، تعمل في مالي بناءً على طلب من السلطات المالية، في إطار ما وصفه بـ«الطلبات المشروعة» لحكومة باماكو.
لكن وجود هذه الوحدات ترافق مع تورطها الى جانب الجيش المالي في عمليات إرهابية، من قصف واعتقالات وانتهاكات بحق السكان المدنيين، خصوصاً في إقليم أزواد الذي يشهد منذ عقود توتراً مستمراً بين الدولة المركزية في مالي والمجتمعات المحلية الطوارقية.
إقرار ضمني بالمظلومية الأزوادية
أبرز ما يمكن قراءته في حديث لافروف هو اعترافه غير المباشر بما أسماه “الماضي الاستعماري” الذي خلّف تقسيمات حدودية مصطنعة في القارة الإفريقية، أسهمت ـ حسب تعبيره ـ في “تغذية الصراعات الحالية”. أشار الوزير الروسي إلى أن القوى الاستعمارية الغربية، وعلى رأسها فرنسا، رسمت حدود الدول الإفريقية دون مراعاة للجغرافيا أو البنية الإثنية، مستشهداً بحالات عديدة مثل بوروندي ورواندا، ومعتبراً أن ما جرى في مالي « للطوارق » صورة أخرى من هذا الإرث المأساوي.
هذا الطرح أعاد إلى الواجهة القضية الأزوادية التي يعتبر كثيرون أنها ضحية مباشرة لتقسيمات استعمارية تجاهلت الواقع التاريخي والاجتماعي لسكان أزواد، حيث ظلت المنطقة منذ الاستقلال مصدر حراك انفصالي متكرر يطالب بـ”استعادة حق تقرير المصير” وقيام كيان يعبر عن هويتها الخاصة.
روسيا بين باماكو والجزائر: توازن دبلوماسي معقد
أكد لافروف في تصريحاته أن موسكو تحافظ على تواصل دائم مع كل من الجزائر ومالي، سعياً إلى التقريب بينهما، في ظل ما وصفه بـ”التوترات القائمة بين الأصدقاء الجزائريين والأصدقاء الماليين”. وهو تلميح إلى الخلاف المتصاعد بين البلدين حول ملف أزواد ، خاصة بعد انهيار اتفاق الجزائر للسلام وتدهور الوضع الأمني في إقليم أزواد.
يرى مراقبون أن روسيا تحاول الموازنة بين دعمها العسكري لباماكو وبين رغبتها في الحفاظ على علاقات استراتيجية مع الجزائر، الحليف التاريخي لموسكو في شمال إفريقيا، ما يجعل من خطاب لافروف محاولة حذرة لإظهار الحياد في نزاع يعيد تشكيل توازنات النفوذ في الساحل بعد الانسحاب الفرنسي.
أزواد: جرح مفتوح وتاريخ من المقاومة
تاريخياً، لم يكن ارتباط إقليم أزواد بدولة مالي عضوياً أو طبيعياً. فقبل استقلال مالي عام 1960، رفع أكثر من 300 من وجهاء أزواد مذكرة إلى الرئيس الفرنسي شارل ديغول في مؤتمر عام بولاية تومبكتو أكتوبر 1958 يطالبون فيها بعدم إلحاق الإقليم بمالي، مستندين إلى اختلافات جذرية في الهوية والأنساق القبلية والجغرافية. لكن فرنسا، حرصاً على مصالحها ومصير عملائها في باماكو، ألحقت الإقليم بالدولة الوليدة، ما شكّل من وجهة نظر الأزواديين صفقة استعمارية جائرة.
منذ ذلك الحين، تكررت الانتفاضات المسلحة ضد السلطة المركزية، وترافقت مع حملات قمع دامية راح ضحيتها آلاف المدنيين، إلى جانب موجات نزوح واسعة نحو الجزائر وموريتانيا وليبيا والنيجر. واليوم، مع انخراط روسيا في المشهد المالي، يجد الأزواديون أنفسهم أمام معادلة جديدة غير واضحة المعالم، إذ تتبدل موازين القوى بينما تظل قضيتهم عالقة بين إرث الاستعمار وصراعات النفوذ الدولي.
ختام
تصريحات لافروف الأخيرة تحمل دلالات أعمق من مجرد تبرير للوجود الروسي في مالي. فهي تعيد التذكير بأن القضية الأزوادية ليست مجرد نزاع محلي أو قبلي، بل نتيجة مباشرة لتاريخ من التقسيمات الاستعمارية ولعقود من التهميش السياسي والاقتصادي. ومع الانكفاء الغربي وصعود النفوذ الروسي، يبدو أن ملف أزواد دخل مرحلة جديدة قد تحدد ملامحها توازنات القوة في المنطقة بين باماكو وموسكو والجزائر.