
باماكو، مالي – في خطوة تثير جدلاً عميقاً حول استراتيجية السلطات الانتقالية في مالي، تشير معلومات متقاطعة إلى أن الحكومة قد تكون لجأت إلى عقد صفقات مالية مع جماعات جهادية لرفع حصارها عن مدن حيوية، في حين تواصل حشدها العسكري وتصعيد عملياتها ضد جبهة تحرير أزواد، التي يبدو أنها أصبحت العدو الوحيد في منظور باماكو.
وفقاً لمصادر مطلعة، عُقد اجتماع سري في الثامن من سبتمبر 2025 في منطقة تلمسي الصحراوية، الواقعة في إقليم غاو. وجمع اللقاء شخصيات نافذة من “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” (JNIM) المرتبطة بتنظيم القاعدة، مع مهربي مخدرات معروفين في المنطقة، وبحضور لافت لمسؤولين في المخابرات المالية، من بينهم ضابط برتبة عقيد يُدعى ديالو.
كان الهدف الرئيسي للمفاوضات، بحسب المصادر، هو إيجاد مخرج للحصار الخانق الذي فرضته “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” على مدن استراتيجية مثل كاي ونيورو في الغرب، وغوسي في أزواد. وكدليل على نجاح المحادثات، تم بالفعل الإعلان عن رفع الحصار عن مدينة غوسي صباح اليوم التالي للاجتماع.
التفاصيل المسربة عن الصفقة تشير إلى قيام شبكات التهريب بدفع مبالغ مالية ضخمة للجماعات الجهادية مقابل ضمان أمن قوافلهم وفتح الطرق. وتضيف المصادر أن الاتفاق تضمن سماح السلطات المالية بتفريغ شحنات المخدرات في مطار غاو، مقابل أن تدفع هذه الشبكات ما يناهز مليار فرنك أفريقي لـ “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”، التي التزمت بدورها بإنهاء الحصار عن المدن المذكورة.
ازدواجية المعايير: حوار بالمال مع الجهاديين وحرب شاملة على أزواد
تطرح هذه الوقائع، تساؤلات جدية حول أولويات المجلس العسكري الحاكم في باماكو. ففي الوقت الذي يبدو فيه أنه يتبع مسار “شراء السلام” مع تنظيم يُصنف دولياً كأحد أخطر التنظيمات الإرهابية في الساحل، فإنه يشن حرباً لا هوادة فيها على المدنيين في أزواد بحجة أنهم مقربين من جبهة تحرير أزواد.
وتركزت العمليات الخاصة بالجيش المالي وأعوانه من المرتزقة الروس فاغنر / الفيلق الإفريقي على استهداف مواقع الحركات الأزوادية في تومبكتو و غاو و كيدال واستخدام الطيران المسير بشكل مكثف، مما أسفر عن سقوط ضحايا مدنيين وتدمير للبنية التحتية، وزاد من تفاقم الأزمة الإنسانية في المنطقة.
ويرى مراقبون أن هذه الاستراتيجية المزدوجة تكشف عن رؤية السلطات المالية التي تعتبر أن التهديد الوجودي للدولة لا يأتي من الجماعات الجهادية، بقدر ما يأتي من المشروع السياسي لحركات أزواد المطالبة بالاستقلال أو الحكم الذاتي. ويبدو أن باماكو مستعدة للتعايش، ولو مؤقتاً وبشكل غير مباشر، مع الخطر الجهادي، مقابل تركيز كل قوتها العسكرية لسحق الطموحات السياسية في أزواد.
تداعيات خطيرة على استقرار الساحل
إن اعتماد خيار دفع الأموال للجماعات الجهادية، بدلاً من مواجهتها عسكرياً، يحمل في طياته تداعيات وخيمة. فهو لا يوفر لهذه الجماعات مصدراً مالياً ضخماً لتعزيز قدراتها وتجنيد المزيد من المقاتلين فحسب، بل يمنحها أيضاً شرعية سياسية وأمنية على الأرض، ويحولها إلى لاعب لا يمكن تجاوزه في إدارة شؤون مناطق واسعة من البلاد.
كما أن هذه السياسة تقوض جهود (مكافحة الإرهاب) المزعومة على المستوى الإقليمي وتضعف الثقة بين مالي وشركائها الدوليين. فبينما يتم استخدام القوة العسكرية ضد طرف محلي كان شريكاً في عملية سلام (جبهة تحرير أزواد)، يتم اللجوء إلى “حلول” مالية مع تنظيمات عابرة للحدود تشكل تهديداً لأمن منطقة الساحل بأكملها، وهي حاليا على أبواب العاصمة بماكو ومنتشرة في المنطقة بأكملها.
في المحصلة، فإن صفقة تلمسي ، تمثل تحولاً خطيراً في إدارة الصراع في مالي. فهي لا تعكس فقط عجزاً عن المواجهة الشاملة للتهديدات الأمنية، بل تكشف عن اختيار سياسي واضح: اعتبار حركات أزواد “العدو الأول”، والاستعداد لتقديم تنازلات باهظة الثمن للجهاديين في سبيل تحقيق هذا الهدف، وهو ما قد يغرق مالي ومنطقة الساحل في دوامة جديدة من عدم الاستقرار يصعب الخروج منها.
المصدر: حميدو نجادي + مصادر أمنية