
في أبريل 2025، تحولت حادثة إسقاط طائرة استطلاع مالية مسيرة فوق منطقة حدودية إلى أزمة دبلوماسية مفتوحة بين مالي والجزائر، كاشفةً عن عمق التوترات الكامنة بين البلدين. لم تكن الحادثة مجرد احتكاك عسكري عابر، بل شكلت حلقة في سلسلة من الخلافات الاستراتيجية، ووضعت مستقبل العلاقات الثنائية على المحك، بينما يظل المدنيون في مناطق التماس هم الضحية الأبرز لهذا التصعيد.
الروايات المتقابلة: اتهام بالعدوان أم دفاع عن السيادة؟
بدأت المواجهة العلنية في السادس من أبريل 2025، عندما أصدرت الحكومة الانتقالية في باماكو بيانًا اتهمت فيه الجزائر صراحةً بـ”العدوان السافر” عبر إسقاط طائرتها المسيرة في منطقة تينزواتين بولاية كيدال. وذهبت مالي إلى أبعد من ذلك، معتبرةً الحادث دليلاً على “تواطؤ الجزائر مع الإرهاب” بهدف عرقلة عملياتها العسكرية في شمال البلاد.
جاء الرد الجزائري في اليوم التالي، السابع من أبريل/نيسان، نافياً الاتهامات المالية ووصفها بـ”الافتراءات اليائسة”. وقدمت وزارة الدفاع الجزائرية روايتها التقنية للحادث، مؤكدة أن دفاعاتها الجوية رصدت الطائرة وهي تخترق المجال الجوي لمسافة 1.6 كيلومتر في “مسار هجومي”، مما استدعى التعامل معها كتهديد مباشر. وأشارت الجزائر إلى أن هذا الخرق لم يكن الأول، حيث سبقته انتهاكات مماثلة في أغسطس وديسمبر 2024، مما يضع الحادثة في سياق نمط متكرر من الاستفزازات.
البُعد الإنساني المأساوي: “مجزرة تينزواتين”
خلف السجال الدبلوماسي، تكشفت حقيقة أكثر قتامة على الأرض. أفادت شهادات ميدانية ومصادر محلية من شمال مالي بأن الطائرات المسيرة المالية كانت تشن غارات متكررة في محيط تينزواتين على مقربة من الحدود الجزائرية، إحداها وقعت 25 أغسطس 2025 على بعد 500 متر فقط من الخط الحدودي، وعلى مرأى من وحدات حرس الحدود الجزائريين.
أسفرت هذه الغارات عن مقتل 20 مدنياً، بينهم 12 طفلاً، في حدث بات يُعرف محلياً بـ”مجزرة تينزواتين”. تؤكد شهادات السكان أن هذه الضربات العشوائية لا تستهدف الجماعات المسلحة ، بل غالباً ما تطال قوافل مدنية وعائلات من البدو الرحل، مما يجعل المدنيين الضحية الأولى لآلة الحرب المالية.
تصعيد متبادل ونقل الصراع إلى الساحة الدولية
لم تقف الأزمة عند حدود البيانات. اتخذت مالي خطوات تصعيدية بانسحابها من لجنة الأركان المشتركة (CEMOC)، وهي آلية أمنية إقليمية تجمعها مع دول الساحل والجزائر. في المقابل، ردت الجزائر بإغلاق مجالها الجوي أمام الطيران المالي واستدعاء سفرائها من باماكو وحلفائها في نيامي وواغادوغو، معتبرةً أن هذه الدول تتبنى موقفاً “أعمى” ومنحازاً.
بلغ التصعيد ذروته في 4 من سبتمبر/أيلول 2025، حين أعلنت حكومة مالي أنها رفعت دعوى قضائية رسمية ضد الجزائر أمام محكمة العدل الدولية. استندت الدعوى إلى أن إسقاط الطائرة يمثل “انتهاكاً صارخاً” لسيادتها وللقانون الدولي، ودعت إلى “وضع حد للدول التي ترعى الإرهاب في الساحل”، في إشارة لا تخطئها العين إلى جارتها الشمالية.
خاتمة: مستقبل غامض في منطقة مضطربة
لقد حولت أزمة “الدرون” الخلافات السياسية إلى مواجهة دبلوماسية وقضائية مفتوحة. فبينما تتمسك باماكو بخطاب “السيادة الوطنية” لتبرير عملياتها العسكرية في أزواد، ترى الجزائر أن التهديد الأمني الحقيقي ينبع من “فشل مالي في مكافحة الإرهاب” واقتراب عملياتها العشوائية من حدودها. وفي ظل غياب وساطة إقليمية فاعلة، يبقى باب التصعيد مفتوحاً على مصراعيه، مع ما يحمله من تداعيات وخيمة على أمن واستقرار منطقة الساحل بأكملها.