في تطوّر يعكس حجم الأزمة التي تعيشها مالي، أعلنت شركة الشحن العالمية CMA CGM، إحدى أكبر شركات النقل البحري في العالم، في بيان صدر بتاريخ 4 نوفمبر 2025، عن تعليق مؤقت لجميع خدمات النقل البري الموجّهة إلى مالي، عبر موانئ أبيدجان (ساحل العاج)، داكار (السنغال)، تيما (غانا) وكوناكري (غينيا)، إلى إشعار آخر.
القرار جاء – بحسب نص البيان – نتيجة “صعوبات تشغيلية خطيرة بسبب تدهور الأوضاع الأمنية ونقص حاد في الوقود”، ما جعل استمرار النقل البري إلى الداخل المالي، خاصة نحو العاصمة باماكو، أمراً غير آمن وغير ممكن حالياً.
من هي شركة CMA CGM؟
تُعد CMA CGM شركة فرنسية متعددة الجنسيات متخصصة في النقل البحري والخدمات اللوجستية، ويقع مقرها الرئيسي في مدينة مرسيليا.
تأسست سنة 1978 على يد رجل الأعمال اللبناني الأصل جاك سعادة (Jacques Saadé)، وتُعتبر اليوم من أكبر شركات الشحن البحري في العالم، حيث تدير أكثر من 600 سفينة وتنقل ما يزيد عن 22 مليون حاوية سنوياً نحو أكثر من 160 دولة.
تلعب الشركة دوراً محورياً في التجارة الإفريقية، إذ تعتمد عليها دول حبيسة مثل مالي والنيجر وتشاد في نقل بضائعها عبر موانئ ساحل العاج والسنغال.
انهيار اللوجستيات وشلل اقتصادي يلوح في الأفق
تُعدّ مالي دولة حبيسة تعتمد بشكل شبه كلي على الممرات البرية عبر الدول الساحلية لنقل البضائع، سواء عبر ميناء أبيدجان أو داكار، وهما الشريانان التجاريان الرئيسيان اللذان يمدّان الأسواق المالية بالمواد الأساسية والوقود.
ومع إعلان CMA CGM وقف الشحن، فإن البلاد تواجه عملياً حصاراً اقتصادياً ذاتياً، إذ لم يعد من الممكن نقل السلع من الموانئ إلى العاصمة، ما يُنذر بموجة جديدة من نقص المواد الغذائية والوقود وارتفاع الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة.
أزمة الوقود وانقطاع الطرق نحو باماكو
يتزامن قرار الشركة مع أزمة وقود خانقة تضرب مالي منذ أسابيع، حيث شوهدت طوابير طويلة أمام محطات البنزين في باماكو، بينما توقفت شاحنات النقل والبضائع على الطرق بسبب غياب الإمدادات.
كما أنّ الاضطرابات الأمنية على طول الطرق التجارية، خصوصاً في المناطق الجنوبية والغربية ، جعلت حركة القوافل التجارية محفوفة بالمخاطر، وسط هجمات متكرّرة لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين (JNIM) وعمليات تفجير استهدفت القوات المالية وحلفاءها من مجموعة الفيلق الإفريقي الروسية.
وبحسب مصادر محلية، فإن طرق الإمداد من داكار وأبيدجان نحو باماكو أصبحت شبه مشلولة، بسبب الكمائن، ونقص الوقود، والتوتر بين السلطات العسكرية ودول الجوار.
قرار CMA CGM… مؤشر على عزلة متفاقمة
لا يُعدّ قرار الشركة الفرنسية مجرد إجراء تجاري؛ بل يُعتبر مؤشراً خطيراً على عزلة باماكو المتزايدة، خاصة في ظل التوتر السياسي بين النظام العسكري والدول الغربية والإقليمية.
فبعد انسحاب القوات الأممية والفرنسية، ومع تدهور العلاقات مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس) و الجزائر ، تجد مالي نفسها اليوم محاصرة اقتصادياً وأمنياً، دون منفذ بحري ولا ضمانات نقل آمن.
ويرى محللون أنّ تعليق الشحن من قبل CMA CGM، وهي الشركة التي تعتمد عليها أغلب المؤسسات التجارية لنقل البضائع، يُمثل ضربة قاسية للاقتصاد المالي، الذي يعيش أصلاً على وقع التضخم وتراجع قيمة العملة، وانهيار الخدمات الأساسية.
باماكو بين الحصار الداخلي والعزلة الدولية
مع شحّ الوقود وانقطاع الإمدادات، بدأت ملامح حصار فعلي للعاصمة باماكو تظهر للعيان.
وسائل النقل شبه متوقفة، والمخزون الغذائي في تناقص مستمر، فيما يتحدث سكان العاصمة عن أسعار مضاعفة للمواد الأساسية وانقطاع متكرر للكهرباء بسبب توقف محطات التوليد التي تعتمد على الوقود المستورد.
وفي ظل هذا الوضع، يبدو أن النظام العسكري بقيادة العقيد عاصمي غويتا يواجه اختباراً غير مسبوق، بين استمرار الانغلاق والعزلة من جهة، وعجزه عن تأمين الحدود والممرات التجارية من جهة أخرى.
خاتمة
قرار CMA CGM بتعليق الشحن إلى مالي ليس مجرد إجراء تقني؛ بل هو إنذار اقتصادي وجيوسياسي يُبرز عمق الأزمة التي دخلت فيها البلاد منذ سيطرة العسكر على الحكم، وتدهور العلاقات الخارجية، وانهيار الأمن الداخلي.
ومع غياب أي بوادر لانفراج قريب، فإنّ باماكو تبدو اليوم محاصرة من الداخل والخارج، في مشهد يُنذر بتفاقم المعاناة الإنسانية، وتحوّل الأزمة من سياسية وأمنية إلى أزمة بقاء دولة بأكملها.
