
أعلنت حكومات مالي وبوركينا فاسو والنيجر، المكوّنة لما يُسمى كونفدرالية دول الساحل (AES)، انسحابها من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وقد حاولت هذه الأنظمة العسكرية تقديم القرار على أنه خطوة “سيادية” تهدف إلى تعزيز الاستقلال، لكن المراقبين يرون فيه محاولة واضحة للهرب من العدالة الدولية.
تبرر هذه الدول انسحابها باتهام المحكمة الجنائية الدولية بأنها أداة نيكولونيالية تمارس “عدالة انتقائية”. غير أن الوقائع على الأرض تكشف أن الهدف الحقيقي هو حماية قادة هذه الأنظمة من المحاسبة على الجرائم الجسيمة التي ارتُكبت بحق المدنيين، خصوصاً في أزواد وبوركينا فاسو.
في أزواد وماسينا، ارتكب الجيش المالي رفقة الفيلق الإفريقي ومرتزقة “فاغنر” الروس جرائم موثقة شملت الإعدامات الميدانية، التهجير القسري، القصف العشوائي، وجرائم اغتصاب جماعي. تقارير ميدانية أكدت أن النساء والأطفال والعجائز كانوا من أبرز ضحايا هذه الانتهاكات التي ترقى إلى مستوى جرائم حرب.
أما في بوركينا فاسو، فقد اتخذت الانتهاكات طابعاً أكثر وحشية، حيث أبلغت منظمات حقوقية عن قتل مدنيين وحرقهم أحياء، إضافة إلى حالات موثقة من أكل لحوم الضحايا. كما شملت الجرائم قصف القرى، تدمير الممتلكات، وتشريد عشرات الآلاف من السكان. هذه الانتهاكات المروعة تضع النظام البوركيني في دائرة الاتهام بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
منظمات أزوادية مثل كل أكال ومنظمة إيموهاغ الدولية لحقوق الإنسان بادرت إلى توثيق هذه الجرائم بدقة. وقد أودعت هذه المنظمات شكوى قانونية لدى المحكمة الجنائية الدولية تضمنت تقارير مفصلة، صوراً دامغة، وشهادات لضحايا وأقاربهم، إضافة إلى معلومات حول المسؤولين المباشرين عن هذه الانتهاكات.
المذكرة الحقوقية المودعة لدى الجهات الدولية المختصة لم تكتفِ بسرد الانتهاكات، بل صنفتها ضمن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مطالبة المحكمة الجنائية الدولية بالتحرك العاجل لفتح تحقيقات مستقلة وملاحقة المسؤولين مهما كانت مناصبهم.
كما قام “تكتل حصن المتين ” الجزائري بخطوات مماثلة، حيث بادر أيضاً بمراسلة المنظمات الدولية لحقوق الإنسان لتوثيق هذه الانتهاكات ضد المدنيين في أزواد والساحل وتقديمها للجهات المختصة؛ حسب ما أكده رئيس التكتل للنهضة.
من الناحية القانونية، فإن انسحاب تحالف دول الساحل AES من نظام روما الأساسي لا يدخل حيز التنفيذ فوراً، بل يتطلب مرور سنة كاملة من تاريخ الإخطار الرسمي. وهذا يعني أن الجرائم التي ارتُكبت حتى الآن تظل خاضعة لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية ولا يمكن شطبها أو محوها بقرار سياسي أحادي.
علاوة على ذلك، فإن القانون الدولي يقر بأن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب لا تسقط بالتقادم ولا يُعفى مرتكبوها من المساءلة حتى في حال انسحاب دولهم من المحكمة. وبالتالي فإن القادة العسكريين في مالي وبوركينا فاسو سيظلون مهددين بالملاحقة في أي وقت.
خلاصة القول، إن انسحاب دول الكونفدرالية AES من المحكمة الجنائية الدولية يعكس رغبة الأنظمة العسكرية في الإفلات من العقاب، لا أكثر. لكن هذا القرار لن يوقف مسار العدالة، ولن يمحو معاناة الضحايا في أزواد، ماسينا وبوركينا فاسو. بل سيُسجَّل كخطوة جديدة لعزل هذه الدول عن المجتمع الدولي وتأكيد مسؤوليتها عن الجرائم البشعة المرتكبة بحق المدنيين.