
في صحراء لا تُصدّق حتى تُعاش، حيث يتقاطع الغياب بالأسطورة، والخوف بالحقيقة، يسافر الكاتب المصري أيمن السيسي من “نواكشوط إلى تومبكتو” في كتابه الذي يحمل عنوانًا فرعيًا مؤلمًا: الكتابة على حافة الموت. ليس الكتاب مجرّد رحلة جغرافية إلى قلب أزواد الممزق، بل هو غوص مرير في جغرافيا الوجع السياسي، وتفكيك بطيء لألغاز الصحراء، من مدنها المخبأة خلف الغبار، إلى ذاكرة سكانها التي تئن تحت صخرة التاريخ المعطوب. ما يرويه السيسي ليس فقط ما رأته عيناه، بل ما لم تقوَ روحه على نسيانه. إنه نصٌ يمشي فوق نار الأزمة الأزوادية، يكشف هشاشة الدولة، ويُنصت لهمس المقهورين، ويجسّد الحقيقة الوحيدة الممكنة: أن من يكتب من تمبكتو، إنما يكتب من شفير الموت.
من نواكشوط إلى تمبكتو: سَفرٌ في قلب الفوضى
يفتتح الدكتور أيمن السيسي كتابه بسردٍ يتجاوز المشاهدة المباشرة إلى التأمل العميق في مسار الانهيار في مالي، وتحديدًا في أزواد، الإقليم الذي تحوّل من ساحة حلم الاستقلال للطوارق والعرب إلى مسرح للفوضى المفتوحة. يبدأ التدهور بانقلاب باماكو، مرورًا بانسحاب الدولة المركزية، وظهور قوى متناحرة بين قوميين وجهاديين، وصولًا إلى إعلان كيان انفصالي لا يشبه الماضي ولا يستوعب المستقبل.
رحلته نحو أزواد ليست فقط جغرافية، بل وجودية. يبدأ من مطار نواكشوط حيث يختفي بائع الشاي فجأة، مشهد عبثي يعكس تحولات موريتانيا العميقة، حيث في شاهد في رحلته التي سبقت هذه صاحب الشاي يوزعه في المطار في خطوة تعكس استقبال المسافرين بشكل لائق . ثم تنقله الطرق الوعرة إلى تومبكتو، المدينة التي تبدو وكأنها خيالٌ عالق بين الروح والأسطورة، مغلقة كضريح، لكنها منفتحة أمام الغزاة كما كانت دومًا.
أزواد: شعب بلا دولة ولا حماية
يركّز الكاتب على المأساة الصامتة التي لحقت بالعرب والطوارق بعد انسحاب الجماعات المسلحة، حيث تحوّل المدنيون إلى أهداف للجيش المالي، في موجات من الإعدامات الجماعية والاختفاءات القسرية. يرسم السيسي لوحات سوداء من التدمير الممنهج للمعاهد والمساجد، خصوصًا في تمبكتو، ويستحضر “مذبحة العلماء”، بوصفها لحظة موت رمزي لحضارة كانت تتغذى على نور العلم.
ولا يتجاهل الكاتب معاناة اللاجئين في المخيمات، خصوصًا في “إمبرا” الموريتانية، حيث الجوع والمرض والخذلان الإنساني. إنه وصفٌ يفضح التواطؤ الدولي مع العدم.
أنصار الدين والقبور المهدومة: حين تتحوّل الروح إلى هدف
زيارة السيسي إلى تمبكتو جلبت له لقاءات مباشرة مع قادة الجماعات الجهادية، لا سيما “أنصار الدين”، التي كانت تسيطر حينها على المدينة. يتحدث عن رؤيته لهدم المساجد والأضرحة، وعن رعب السكان من هذا العنف الرمزي. لا يرى الجماعات فقط ككيانات مسلحة، بل كقوة تدميرية تمزّق النسيج الروحي والثقافي للصحراء.
من يدعم الجهاد؟: خريطة تورط معقدة
يحلل الكاتب بجرأة دور الأطراف الخارجية، بدءًا بليبيا ما بعد القذافي التي تحولت إلى ترسانة مفتوحة، مرورًا بقطر التي -وفقًا للكتاب– استخدمت الفدية والمساعدات بوابة دعم غير مباشر، وصولًا إلى مؤسسات دينية خليجية نشرت الفكر الوهابي في الفضاء الصحراوي، وساهمت في تغذية التطرف.
ويخوض في الجوانب الإجرامية من نشاط الجماعات الإسلامية، حيث التهريب بأنواعه يُحوّل أزواد إلى ممر استراتيجي للكوكايين نحو أوروبا.
إيران والقاعدة: تقاطع غير مقدّس
في فصل صادم، يرصد السيسي ما يسميه “التقاطع المصلحي” بين إيران وتنظيم القاعدة. يورد حالات إيواء وتسهيل لوجستي، ويستنتج أن إيران تستخدم الجماعات السنية ضمن استراتيجيتها التوسعية، بغض النظر عن التباين المذهبي الظاهري.
الهوية المعقّدة… وتاريخ منسي
ينبش الكاتب في أعماق تاريخ أزواد، من تجارة الرقيق إلى الاستعمار الفرنسي، ويتوقف عند التشابك الحاد بين الطوارق والعرب، مؤكدًا على أن ما يجمعهم أكثر مما يفرقهم، وأن التدخلات الخارجية هي التي شوّهت توازناتهم. ويستعرض ثورات متكررة من 1963 إلى 2012، كلها قمعت بوحشية.
سحر الطوارق وخرافاتهم: ما بين الغيب والرماد
بأسلوب أقرب إلى الإثنوغرافيا، ينقل السيسي طقوسًا غريبة لاستطلاع الغيب عند الطوارق، من “اليكن” إلى “تيبليغين”، حيث المرأة والمرآة والرقص والرماد يتكاملون في محاولة لفهم المجهول. يشرح الطقوس دون أن يحكم، بل يعرضها كمرآة لقلق الإنسان في الصحراء، وتوقه للمعنى وسط العدم.
ويعرّج كذلك على اللثام الطوارقي، بين من يراه سترًا للعار، ومن يعتبره شارة كرامة ورمزًا للمقاومة، بل يحكي أسطورة طريفة عن نساء تلثمن لهزيمة الأعداء بالخداع.
تمبكتو: الكتابة في حضرة الموت
لم تكن الرحلة سهلة. حمى الملاريا أرهقته في نواكشوط، والخوف ظلّ رفيقه في الطريق الطويل نحو تمبكتو. وعندما وصلها، رأى مدينة تعيش تحت ظلال الخوف والاحتلال الجهادي. يكتب عن تمبكتو كمن يكتب عن مدينة لا يريد لها أن تموت، رغم أنها تحتضر كل يوم.
يختتم رحلته بالعودة إلى ليري، ولقائه بالقيادي الأزوادي عباس أغ انتالا. وهناك، يعيد تجميع الصورة الكاملة: أزواد المقهور، مالي القامعة، المجتمع الدولي الغائب، وشعب يتنازع بين الحلم والانهيار.
خاتمة: منفيون في وطنٍ لا يعترف بهم
ينهي السيسي كتابه بمرارة المؤرخ وشجن الشاهد. أزواد، كما يراه، ليست مجرّد أزمة سياسية، بل اختزال لمأساة ما بعد الاستعمار، حيث تُصادر الهويات وتُقمع الذاكرة. إنهم ليسوا انفصاليين، بل منفيين في وطنٍ لا يعترف بوجودهم.
“من نواكشوط إلى تومبكتو” ليس مجرد سفر جغرافي، بل رحلة في قلب المأساة، شهادة على وطن مقصيّ، وصرخة كتبت بحبر الخوف والحمى، والحنين إلى عدالة لم تأتِ بعد.