 
        في مفارقة لافتة تعكس تعقيدات المشهد الأمني في مالي، كشفت مصادر مطلعة أن المجلس العسكري في باماكو توسط لإتمام صفقة مالية ضخمة بين دولة الإمارات وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، شملت دفع فدية قدرها نحو 28 مليار فرنك إفريقي (قرابة 50 مليون درهم إماراتي)، مقابل إطلاق سراح ثلاثة رهائن إماراتيين وإيراني، كانت الجماعة قد اختطفتهم في سبتمبر الماضي.
الصفقة، التي تمت بوساطة مباشرة من الرئاسة المالية، تثبت مرة أخرى هشاشة الدولة أمام تمدد الجماعات الجهادية التي باتت تفرض حصاراً خانقاً على العاصمة نفسها، وتمول اليوم قوتها العسكرية من أموال دفعتها حكومة تحاول النجاة من السقوط.
حصار خانق على العاصمة
تعيش باماكو منذ أسابيع حالة اختناق غير مسبوقة بعد أن اقتربت أرتال مقاتلي جماعة نصرة الإسلام والمسلمين إلى مسافة 30 كيلومتراً فقط من أطراف المدينة، ما تسبب في أزمة وقود خانقة وشلل شبه تام للحياة اليومية.
التقارير الميدانية تشير إلى احتراق مئات الشاحنات التي كانت تنقل المواد الأساسية نحو العاصمة، فيما توقفت المدارس وتعطلت الإدارات العامة، وسط دعوات دولية لمغادرة الرعايا الأجانب، أطلقتها كل من الولايات المتحدة وألمانيا وأستراليا تحسباً لسيناريو سقوط العاصمة.
عملية الخطف التي هزت القصر
تعود بداية الأزمة إلى يوم 23 سبتمبر الماضي حين هاجم مسلحون مزرعة فخمة يملكها الجنرال الإماراتي المتقاعد جمعة بن مكتوم آل مكتوم في منطقة سانانكوروبا، على بعد 40 كيلومتراً جنوب العاصمة.
الجنرال الذي كان يقيم في مالي منذ سنوات، ويملك استثمارات في الزراعة وتربية الحيوانات، خُطف مع أحد مواطنيه ومساعد إيراني الجنسية من طرف عناصر قدموا أنفسهم كأعضاء في جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، دون أن يواجهوا أي مقاومة تُذكر.
الواقعة وضعت السلطات المالية في موقف حرج أمام حليفتها الإمارات، خاصة مع ما تمثله عائلة آل مكتوم من ثقل سياسي واقتصادي في الخليج، ودفعت باماكو إلى الدخول في مفاوضات عاجلة قادها مدير الوكالة الوطنية للأمن موديبو كوني، عبر وسطاء محليين ، بينهم محمد مهري الملقب “روجي” وسيد أحمد “زميلو” و أحمد أبيبي.
صفقة بوجهين
انتهت الوساطة بإطلاق سراح الرهائن الثلاثة بعد أسابيع من المفاوضات السرية، مقابل إطلاق سراح نحو ثلاثين عنصراً من الجماعات الجهادية، وتسليم الفدية التي دفعتها أبوظبي عبر القنوات المالية التي رتبتها الحكومة المالية نفسها.
غير أن المفارقة الكبرى تكمن في أن هذه الأموال، التي ضخت في مناطق نفوذ الجماعة، ستعود عملياً لدعم عملياتها العسكرية التي تحاصر العاصمة، في مشهد يختصر مأزق السلطة العسكرية في باماكو بين ضغط الحلفاء الدوليين وسرعة تمدد خصومها الميدانيين.
مأزق السلطة في باماكو
يرى مراقبون أن هذه الصفقة تمثل “قنبلة سياسية” داخل النظام المالي، إذ تكشف حجم نفوذ الجماعات المسلحة حتى على طاولة القرار الرسمي، في وقت يواجه فيه العقيد عاصمي غويتا تصاعد الغضب الشعبي مع انقطاع الوقود وغياب الأمن.
وبينما تصف مصادر مقربة من الحكومة هذه الصفقة بأنها “جهد إنساني لإنقاذ أرواح رهائن أبرياء”، يرى المعارضين للسلطة أنها دليل على ضعف القيادة العسكرية التي باتت تفاوض خصومها الميدانيين بالمال والسلاح تحت ضغط الصراع وانهيار الاقتصاد.
وسط هذا المشهد المتشابك، يزداد الحديث عن قرب مرحلة جديدة في تاريخ مالي، تكون فيها العاصمة التي طالما ظلت آمنة، على مرمى الجماعات الجهادية، وربما جزءاً من خريطة نفوذها المستقبلية.

 
         
         
         
        