
في بيان رسمي أصدرته يوم الخميس، أعلنت مجموعة فاغنر الروسية انتهاء “مهمتها” في مالي بعد أكثر من ثلاث سنوات من العمليات. وقد جاء في البيان، الذي حمل لهجة نصر عسكري واضح، أن عناصر “الأوركسترا” قاتلوا إلى جانب الشعب المالي ضد “الإرهاب”، ونجحوا في استعادة “كل العواصم الإقليمية” لصالح السلطات المالية، وهو ما وصفوه بـ”الهدف الأساسي للمهمة”.
وأضاف البيان بلغة عسكرية مشحونة: “لقد قضينا على آلاف الإرهابيين وقادتهم، وساعدنا في بناء جيش قوي ومنضبط قادر على حماية أراضيه… المهمة أنجزت، والجندي فاغنر يعود إلى الوطن”.
لكن خلف هذه الشعارات العسكرية، تختبئ وقائع دموية موثقة من قبل منظمات حقوقية وشهادات ميدانية، تُظهر أن مهمة فاغنر لم تكن مجرد “مكافحة للإرهاب”، بل اتسمت بحملات تطهير عرقي وجرائم واسعة النطاق استهدفت المدنيين، خصوصًا من مجتمعات الفلان والطوارق و العرب، في كل من ماسينا وأزواد.
من مارس 2022 إلى يونيو 2025: سجل دموي باسم “مكافحة الإرهاب”
دخلت مجموعة فاغنر الأراضي المالية في ديسمبر 2021 وبدأت عملياتها القتالية فعليًا في مارس 2022. ومنذ اللحظة الأولى، ارتبط وجودها بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، كان أبرزها مجزرة مورا في 22 مارس 2022 التي راح ضحيتها 500 مدني من الفلان. وتوالت الانتهاكات لتشمل أزواد، خصوصًا بعد قرار باماكو نقض اتفاق الجزائر للسلام في أغسطس 2023، وشروع الجيش المالي وفاغنر في هجمات واسعة على معاقل الحركات الأزوادية.
منذ ذلك التاريخ وحتى يونيو 2025، تشير التقديرات الميدانية إلى مقتل ما يقرب من ألفي مدني في أزواد، معظمهم من العزل، في عمليات وصفت بأنها حملات “إبادة جماعية” منظمة. لم تتورع فاغنر عن استخدام أساليب بشعة كالقتل بقطع الرؤوس، وتعليق الجثث على الأشجار، وتفخيخ الجثث، فضلًا عن قصف عشوائي طال الأسواق والمراكز السكانية.
التحالف الدموي: فاغنر والجيش المالي
لم تكن فاغنر تتحرك بمفردها، بل بتنسيق وثيق مع الجيش المالي. وشملت العمليات المشتركة حملات تطهير في منطقة ماسينا ضد الفلان، تزامنت مع حملة عسكرية ضد الطوارق والعرب في أزواد . وشكلت هذه الحملات محاولة حثيثة لإعادة فرض هيبة الدولة المالية بالقوة، بدلًا من الالتزام بالحلول السياسية الموقعة سابقًا في اتفاق الجزائر.
في الميدان، اعتمدت فاغنر على ترسانة عسكرية متطورة، شملت مدرعات صينية وطائرات مسيرة تركية وطائرات الباتروس الروسية، مما منحها تفوقًا عسكريا واضحًا في معاركها ضد الحركات الأزوادية، خاصة في بير، فويتا، أنفيف، وكيدال.
تينظواتن: نهاية الدم… وبداية الانسحاب؟
في الفترة بين 25 و27 أغسطس 2024، وقعت واحدة من أكثر المعارك دموية في تاريخ وجود فاغنر في مالي، عندما اشتبكت قواتها مع الحركات الأزوادية في بلدة تينظواتن القريبة من الحدود الجزائرية. انتهت المعركة بمقتل 84 من مرتزقة فاغنر و47 جنديًا ماليًا، وأسر خمسة من المقاتلين، بينهم اثنان من الروس. وقد أسقط الجيش الأزوادي طائرة تابعة للجيش المالي خلال المواجهات، وأفادت المصادر أن الكتيبة المشاركة في العملية تم القضاء عليها بالكامل.
شكلت هذه المعركة ضربة قاصمة لفاغنر في أزواد، وواحدة من أعنف الهزائم التي منيت بها في إفريقيا، وهو ما يرجح أن يكون أحد العوامل التي عجلت بقرار انسحابها من مالي.
الرحيل لا يعني النهاية: من يخلف فاغنر؟
رغم إعلان فاغنر انتهاء مهمتها، لا يعني ذلك نهاية النفوذ الروسي في مالي. فقد تم الإعلان عن أن “الفيلق الإفريقي” التابع لوزارة الدفاع الروسية سيواصل مهام الدعم والتنسيق مع الجيش المالي، في إطار حضور عسكري روسي أكثر رسمية ومؤسساتية.
خاتمة: المهمة لم تُنجز… بل بدأت المحاسبة
بينما تعلن فاغنر عودتها إلى الوطن بشعار “المهمة أنجزت”، يبقى الوطن المالي غارقًا في جراحه. فالمدنيون في ماسينا وأزواد لا يزالون يدفنون ضحاياهم، ولا تزال الملفات مفتوحة في أدراج العدالة الدولية.
انسحاب فاغنر من مالي ليس نهاية القصة، بل ربما بدايتها الحقيقية.