الدكتور أيمن السيسي الصحفي والمفكر السياسي ورائد التحقيقات الاستقصائية:
تعرضت للاغتيال فى الصومال والخطف والاعتقال فى أز والنيجر وجنوب الجزائر وسوريا
نجحت في التسلل داخل تنظيم “القاعدة” خلال رحلتي من نواكشوط إلى تمبكتو
كشفت أسرار قراصنة خطف السفن فى المحيط الهادى وبحر العرب قبالة شواطئ الصومال
واجهت خطر الذبح على يد عناصر “داعش” فى ليبيا عام 2014
هددتنى مافيا صناعة الألبان المغشوشة بالقتل .. وهذه قصة فساد خصخصة شركات القطاع العام
لهذه الأسباب .. الصحافة الاستقصائية هى التى ستطيل من عمر الصحف الورقية
إيران هى الممر الآمن لجماعات الأرهاب فى منطقة الشرق الأوسط

الحوار:
الصحفى المغامر أيمن السيسى رئيس قسم التحقيقات الاستقصائية فى “الأهرام” ، جاء تكليفه بإنشاء القسم ورئاسته ، لخبرته الممتدة لسنوات طويلة فى هذا النوع من الصحافة ، قدم خلالها عدد كبير من التحقيقات التى كشفت المستور فى قضايا عدة داخليا فى مصر، مثل السلع الغذائية الفاسدة التى تؤدى بمستهلكيها إلى الإصابة بأخطر الأمراض مثل السرطان، وكذلك الفساد الحكومى فى خصخصة شركات القطاع العام، وأسهمت تحقيقاته تلك فى استعادة الدولة لعدد من الشركات بعد كشفه لمدى الإجرام والفساد فى صفقات البيع.
وخارجياً استطاع بتحقيقاته الاستقصائية كشف السر وراء إنتشار خطف السفن فى المحيط الهادى وبحر العرب قبالة شواطئ الصومال، وسر والدة القذافى اليهودية، وكشفه لأسرار جماعات الإرهاب فى “درنة” الليبية و”تمبكتو” فى أزواد، وكان الصحفي الوحيد في العالم الذي نبه إلي إرسال ارهابيين إلى ليبيا عبر الصحراء الكبرى عام 2017 وقبلها.
وكان الزميل أيمن السيسى الوحيد من الصحفيين المصريين الذى استطاع الوصول إلى “إمارة تمبكتو” وكشف خبايا تنظيم “القاعدة” فى بلاد المغرب الإسلامى، وغيرها من التحقيقات القوية الصادمة، وآخرها تحقيقاته التى نشرت كباكورة إنتاج قسم التحقيقات الصحفية الاستقصائية فى صحيفة الأهرام عن ضلوع التنظيمات التكفيرية المتطرفة فى الصحراء الكبرى وبلدان غرب إفريقيا وليبيا مع عصابات قبلية ومسئولين أمنيين فى موريتانيا ومالى والنيجر فى تجارة تهريب الكوكايين والحشيش الذى يغرق مصر والسعودية ودول الخليج، فضلا عن تهريب السلاح. ورصد كيف انتقلت كتائب وعناصر تنظيم “داعش” من سوريا والعراق إلى ليبيا عبر مطارات الخرطوم ونواكشوط و”باماكو”، و”نيامى” لتكوين قاعدة بديلة للخلافة المزعومة فى ليبيا لمهاجمة مصر.
وما بين التحقيقات الاستقصائية الداخلية والخارجية التى كتبها أيمن السيسى تعرض عدة مرات للقتل والخطف والاعتقال.
سألته: هل يستحق إنجاز تحقيق استقصائى التضحية بحياة صحفى؟
قال بدون تفكير شخصيا أري أن كشف الحقيقة صيغة من صيغ الجهاد الحقيقى، والموت فى سبيل كشف الحقيقة لإنارة تفكير المجتمع وتوعية البشر، ولتحذير الدول من أخطار جمعية مهم، وهنا يكون الموت ثمنا بسيطا، وهناك قضايا إذا كشفت الحقائق فيها تنقذ أرواح آلاف البشر، بل وأحيانا مئات الآلاف، وهنا تكون حياتك كفرد قربان بسيط لغاية هامة، هذه واحدة من قناعاتى، أما القناعة الأهم فهى أن “ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً”، وقدر الإنسان محتوم، فى بلاده أو فى غيرها وموته وحوادث حياته كذلك، فلو قدر الله لك الموت فلن ينجيك أحد ولا شئ، وهو ما واجهت به خطر الذبح على يد عناصر “داعش” فى ليبيا عام 2014 عندما اقتادونى من فندق “تبيستى” فى بنغازى بعد جولة خطرة جداً فى مدينة “درنة”، فعندما قال لى أحد الدواعش سنذبحك تقرباً لله، لم أزد عن قول “لن تفعل شيئاً بى رغماً عن إرادة الله”، فإن قدر لى الذبح على يديك سيحدث، فافعل ما شئت، فإن لله مشيئة وهي أعظم من مشيئتك، فإن قدر لى ذلك فهو حسبى ونعم الوكيل، ولكنهم – رغم تصريحهم لى بالذبح لم يفعلوا – وأطلقونى بعد احتجاز طويل خضعت فيه للاستجواب المرهق واحتفظوا لديهم بجواز سفرى، وعندما ساعدنى المناضل العظيم محسن ونيس القذافى – نجل السيد ونيس القذافى – آخر رئيس وزراء فى عهد الملك السنوسى، فى الحصول على جواز سفرى منهم عن طريق الصديق والأخ الأكبر المناضل والمفكر إدريس لاغا، جاء به غيث عزوز فى منزله وكرر نفس الجملة أمامهما وأمام السيد خالد الثنى مدير الائتمان فى بنك الوحدة بليبيا، قال أحد الجلوس: كيف نجوت من القوم الظالمين، فإنهم لا يعرفون الهزل فى مثل هذه الأمور، بعدها بأسبوع ذبحوا المصريين الأقباط، وبعدها بسته أشهر مات غيث عزوز محترقا فى سيارته.
هل علمت لماذا أطلقوك؟

لا .. ولكنى فى لحظة إدخالى إلى معسكر “قنفودة” فى بنغازى نطقت بالآية الكريمة “رب ادخلنى مدخل صدق، وأخرجنى مخرج صدق، واجعل لى من لدنك سلطاناً نصيرا”، وهو ما أكرمنى الله به، وإن كان تفسير الشهيد البطل العقيد على المراكبى قائد إحدى كتائب الجيش الوطنى الليبى – قتلوه عام 2017– وكذلك المناضل محسن ونيس القذافى، أنهم أطلقوك دون جواز سفر ليقتلوك فى أى شارع وليس معك ما يثبت شخصيتك فتكون جثة مجهولة ولا يتحملون مسئولية قتلك!!
ولكن كيف واتتك هذه الشجاعة والثبات الانفعالى؟
أولاً، كما قلت لك، الإيمان بحتمية القدر ووقته المحدد عند الله، ولا راد لقضائه.
ثانياً، ما تعرضت له قبل ذلك من أكثر من محاولة اغتيال بالرصاص فى الصومال، وخطف واعتقال، وكذلك فى مالى والنيجر وجنوب الجزائر وسوريا، وفى كل الحالات كنت على حافة الموت بالفعل ولكني في كلهما نجوت، ولاني لا أحب النجاة من الموت.. وضحك قائلا: عمرك ستأخذه كاملا.
ألهذا عنونت كتابك الأخير بـ”الكتابة على حافة الموت”؟
طبعاً، ولكن الناشر جعله عنوان فرعى وجعل العنوان الرئيسى “من نواكشوط إلى تمبكتو” كعنوان جاذب للبيع، والكتابة فى الصحافة الاستقصائية هو ولوج مغامرات الموت فى مناطق الخطر وبؤر التوتر حتى وإن كانت فى مناطق آمنة إلا أن نتيجة التحقيق تدنيك من شيئين: الموت أو الخنوع بالرشوة، وغالباً من يعمل فى هذه النوعية الخطرة من الصحافة لا يقبل الرشوة، وبالتالى فالموت أقرب، وآخرهم الصحفية المالطية “فافنى كارونا جاليزيا” التى تم تفجير سيارتها عندما استقلتها أمام منزلها منذ شهرين، بسبب تحقيقها الأخير الذى وجهت فيه أصابع الاتهام إلى رئيس وزراء مالطا وقتها “جوزيف موسكات” واثنين من معاونيه المقربين بالفساد، وكشفت صلتهم بشركات خارج الحدود وعلاقتهم ببيع جوازات سفر مالطية لمجرمين ومهربين وعناصر من المافيا، واستخدام حسابات بنوك فى الفساد، وهى واحدة ممن حققوا فى وثائق “بنما”.

هل تعرضت لمثل هذه المشاكل فى مصر كما تعرضت لها خارجها؟
نعم .. عندما أنجزت تحقيق حول “اللبن المجنس”، هددتنى مافيا صناعة الأجبان والألبان المغشوشة فى مصر بالقتل بعد رفض وقف الحملة مقابل رشوة بملايين، وكذلك عندما كشفت فساد صفقات خصخصة بعض شركات القطاع العام وغيرها، ولكن الحمد لله نجوت من الموت ولم أقبل الرشوة.
ما رؤيتك للصحافة الاستقصائية فى ظل سيطرة الصحافة الرقمية واستقطابها لأعداد كبيرة من القراء ؟
هذه النوعية من الصحافة هى التى ستطيل من عمر الصحف الورقية فى ظل تسارع وتيرة الصحافة الرقمية واستقطابها لأعداد كبيرة من القراء، خصوصاً الشباب والفئات العمرية المختلفة التى تحمل فى هواتفها المحمولة كل صحف العالم والمواقع الإخبارية تطلعهم على الحدث فى لحظة وقوعه أو بعد وقوعه بدقائق، فضلا عن سطحية المحتوي وتواضعه في أغلب الصحف العربية، وأيضا كسل الصحفيين وهشاشة وضعهم المعرفي وثقافتهم.
كم من الوقت استغرقت رحلتك؟
ما يقرب من العام، وقبلها رصدت فى رحلتين سابقتين إلى موريتانيا وأزواد والجزائر تحركات الإرهابيين من العراق وسوريا، ومتابعة تحركاتهم، ثم سافرت لاستكماله، فرافقت بعضهم مع مهربي الصحراء فى رحلة إلى قرية “إن خليل” في أزواد عبر مثلث الحدود بين أزواد والجزائر وموريتانيا الذى أصبح مشهوراً بـ”تورا بورا العرب” أو “ساحلستان الصحراء”.
هل تعرضت فيه للخطر؟
بالتأكيد فى مثل هذه النوعية من التحقيقات الاستقصائية يلاقى الصحفى فيها خطر الموت فى أى لحظة، فضلاً عن الإجهاد البدنى والتعب الجسمانى الشديد، فالرحلة فى الصحراء غالباً تكون فى ظروف طقس قاسية سواء من حيث الحرارة الشديدة التى تزيد عن 50 درجة مئوية، أو البرودة الصقيعة فى الليل. وصادفتنا عصابات قطع الطرق التى نشطت ما بين بير الحلو (280كم) شمال شرق “تمبكتو” و”الخليل”، وتقوم بخطف المسافرين وتسلبهم أعضاءهم البشرية، وتنزع أحشاءه فى إطار تجارة الأعضاء، وهو ما كدنا نتعرض له بعد مهاجمة إحدى عصابات قطع الطرق لقافلتنا لولا يقظة سائقينا وتحوطهم بقطع السلاح التى واجهوا بها العصابة.
ولكن هل كل التحقيقات الإستقصائية تؤدى للتعرض للقتل؟
بالتأكيد لا، فهناك تحقيقات استقصائية قد لا تتعرض فيها لكشف أشخاصاً على درجة كبيرة من الخطورة، وهناك أخرى تتعلق بأشياء أخرى يكون المحور فيها موضوع وليس أشخاص. وهل هذه النوعية من الصحافة جديدة.
وهل تستطيع حماية الصحف الورقية من السقوط؟
أولا، هى ليست جديدة، فكل تحقيق جيد مكتمل الأركان هو استقصائى، وزخرت صفحات التحقيقات فى الصحف المصرية على مدى تاريخها بكثير من هذه النماذج، وبالتأكيد هذا النوع من الصحافة سيعمل على تأخير تراجع الصحف الورقية بشرط توفر المناخ السياسي الجيد ، وان كانت الجوائز المالية مثل جائزة سمير قصير وقبلها في أوروبا أسهمت في دعم الصحافة الاستقصائية.
لم تذكر جائزة دبي رغم أنك رشحت بها مرات عده وفزت؟
فزت بها عن سلسلة تحقيقات حول قراصنة البحر فى الصومال والتى نشرت بعنوان “الأهرام يخترق أوكار القراصنة”، واعتبرها من أفضل وأهم التحقيقات، مع جوائز أخرى، فى تحقيقى كصحفى استقصائى، وبعدها انهالت علىَّ عروض العمل فى عدة دول، وعروض لتدريب وتكوين الصحفيين الشباب، وهو ما قبلت منه بالتدريب، حيث أعطى محاضرات وتدريب لعدد منهم فى الأردن وليبيا وموريتانيا واليمن، ولكني أتحفظ على بعض الجوائز بعد ان انحرفت عن مسارها الحيادي وأصبحت تمنح لأهداف سياسية وموأمات بعيدا عن المهنية الصحفية، فضلا عن استغلال الصحفيين الذين يفوزون بها لاهداف غير جيدة ، واذا نظرت إلي ما تفعل الأمارات فى كثير من الدول لوجدتها تعمل ضد العرب والاسلام، وتحارب مصروالسودان وتستغل وجودها فيهما وفي دول أخري لإضعاف الأنظمة لصالح مؤامرة كبرى ، وهذه قضايا ، أنا شخصيا، كتبت عنها وأعد لها كتابا أنهيته تقريبا بعنوان ” كشف الستار” ولهذا لا أحب الاستطراد في ذلك الآن.
بصفتك صحفى استقصائى ومتخصص فى رصد الجماعات الإرهابية، كيف ترى وضع العالم العربى خلال الفترة القادمة؟
للأسف لا أراه جيداً، فنحن كبلدان عربية مقبلون على فترة عصيبة سيزداد فيها توحش الإرهاب خصوصاً بعد نشوء جماعة جديدة من رحم “داعش” وهى جماعة “الحازميون” نسبة إلى محمد بن عمر الحازمى، السعودى المعتقل فى الرياض منذ مارس 2015 لشدة خطورة أفكاره، فهذه الجماعة تكفر العامة وتكفر داعش، بل وتكفر ابن تيمية ذاته ، ومحمد بن عبد الوهاب نفسه ، على قاعدة “عدم العذر للجهل”، ولها معتنقين كثر لفكرها خصوصاً بعد انهيار “داعش” فى العراق والشام، وهروب مقاتليه إلى بلدانهم أو إلى ليبيا. فضلا عن عودة داعش بعمليات نوعية في العراق وجنوب الصحراء الكبر في مالي والنيجر وبوركينا وغيرها من الدول الإفريقية وفي اسيا إندونيسيا وماليزيا وباكستان وغيرها
هل تعتقد أن هذه الجماعات ستستمر في الشام وليبيا بعد هزيمة داعش؟
نعم، طالما اقتصرت المواجهات على الجانب الأمنى دون الفكرى التوعوى، وطالما بقيت دول الغرب تظلم المسلمين وتعمل على تقسيم بلدانهم، وهؤلاء يعانون أزمتين: الأولى، أزمة هوية تتمثل فى ارتدائهم الزى الأفغانى القندهارى ويتنكرون فى رفض زيهم التقليدى فى بلادهم لمجتمعاتهم وثقافتها، ويتخذون أسماء الصحابة مثل أبو تراب، والقعقاع، والبراء وهى وإن كانت للصحابة فهم أبعد بممارساتهم عن شرف وقداسة أصحابها الأول.
الأزمة الثانية هى الأخلاقية بروافدها، فدراستى لحالات بعضهم وبحثى فى ماضيهم أكدت أنهم خرجوا من أسر إما احترفت فيها النساء الدعارة كحالة سفيان القومة زعيم “أنصار الشريعة الليبى”، أو تورط بعضهم فى حالات زنا محارم مثل أحمد بو ختالة – المعتقل فى أمريكا حالياً بعد حادث تفجير قنصليتها فى بنغازى، وسعدى خالد السعودى – أحد قادة عصابة “جبهة النصرة” قبل اندماجها فى “فتح الشام”، أو لتورطهم فى حوادث قتل مريعة، هزت وجدانهم فبدأو محاولات التوبة بعدها ولجأوا إلى التكفير بالإيغال فى الدماء والقتل ظناً أنه جهاد كحالة إحمادة ولد محمد الخيرى الموريتانى الذى تورط فى قتل سنغاليين أثناء أزمة النهر بين موريتانيا والسنغال عام 1989، أو عمر ولد حماه زعيم التوحيد والجهادالسابق في ” أزواد ” ، وهؤلاء للأسف يستخدمون لهدم بلدانهم.
ما هو دور النخبة الإعلامية والثقافية فى العالم العربى لمعالجة ذلك؟
كلمة النخبة هذه وهم عظيم اخترعه إعلام بعض الأنظمة العربية لتدجين شعوبها عن طريق بعض المثقفين ممن يسمون نخبه ولممارسة نفس أفعال داعش من الهندسة الاجتماعية وتمرير ما ينتج عقلية القطيع، ومن اصطلح الإعلام على تسميتهم بالنخبة هم مجرد “أرزقية” أو مرتزقة أحاديث مدفوعة سواء مكتوبة أو مسموعة أو مصورة للتبرير والتدجين، مصيبتها أنها لا تمتلك مشروعاً فكرياً ولا دينياً ولا سياسياً، وفى ذلك نعنى أيضا ما يسمى بالأحزاب السياسية. فهم هؤلاء وأولئك ليس لديهم مشروعا، إنما لديهم نزوعا للسلطة، ولذلك تجدهم يعتمدون على أشخاص يطلقون صيحة أو فكرة أو يمتلك كاريزما أو شلل لترويج وتسويق نفسه يبنون عليه كيان تماما مثل الولى الصالح أو المتوهم أنه صالح عندما يموت يبنون فوقه قبه، ويتخذون عليه مسجدا، وهذا كله يعبر عن أزمة الفكر العربى وهويته منذ مائة عام، وانظر دور فرد واحد شاذ هو” لورنس” فيما سُجل زورا فى التاريخ باسم ثورة العرب الكبرى، وهى لم تكن ثورة، وإن كان فيها أفراد عرب ولكنها ليست كبرى بل مجرد أطماع شخص فى حكم. وخلل الهوية هذا عبر عنه السقوط الكبير للحاكم والمحكوم فى مصر وتونس وليبيا والعراق حتى فى سوريا، فإن لم يسقط الحاكم عن عرشه لظروف دولية واحتياج إسرائيلى ودعم معقد من إيران وروسيا، إلا أنه سقط أخلاقيا وأيضا سقطت ما توهم البعض أنها نخبة بارتزاقهم من دم النبلاء الأحرار من الثوار الحقيقيين. وما يسمى زورا ” النخبة ، تأبى إلا أن تخون الشعوب التي تنقاد إليها وبها ،
وكيف تفسر ذلك؟
فى تقديرى أن المشكلة الأساسية هى ضياع الشخصية العربية وتفتتها النفسى والفكرى بين عدة شخصيات متناقضة، بناء على تناقض الفكر العقدى فى العالم العربى قديما وحديثا، فالشخصية العراقية الحديثة مثلا، والسورية كذلك، لم يكتمل نضجها القومى والدينى بعد الإسلام بسبب تنوع البناء العقدى قبله بتعدد الآلهة فى كل من سوريا والعراق وتشتت الولاء السياسى بعد الإسلام ، ما بين دمشق والمدينة وبغداد ، وما أثر فيها تضاد أنظمة الحكم ما بين أموى وعباسى وعلوى وذبح كل نظام للآخر والصراع القبلي بين القيسية والزيدية في كل هذه الحقب.
وفى مصر توالي الآلهة من الحكام ، وإن لم يكن تعددا فى نفس الوقت وبعد الإسلام، تعدد الأنظمة أيضا وتقلبها بين ما سمى زورا بالخلافات ثم أزمتها المكتومة التى تظهر كل عدة عقود فى نظم الحكم وإن كانت أقل.
و حدث الابتعاد بين الشخصية العربية والشخصية الإسلامية مع تأسيس الدولة الوطنية فى هذه الدول منتصف القرن العشرين ، وفشلها فى توزيع الظلم والمرض والجهل فى المجتمع، فارتد المجتمع في غيبة أو بدعم هذه المسماه بالنخبة الحاكمة للتخلص من رذالة حاجات المجتمع سواء الى الدين أو القيم العرفية والنبيلة التي أقرها الشرع في قوله تعالى “خد العفو وأمر بالعرف” (الآية: 199) من سورة الأعرف.
وبهذا الشكل الذى ظهر على أيدى جهلاء لا يعرفون الفرق بين المكروه والمحرم وبين الجائز والقبول، أخرج لنا الغرب الاستعمارى القاعدة وداعش وأنصار الدين والشريعة، وهم فى الأغلب لا يعلمون عن الشريعة شيئا، ولذلك تراهم قد جعلوا أنفسهم أوصياء ليس على المجتمع بل على الله نفسه جل وعلا “حاشا لله ” ، ويتضح ذلك من كل ما يفعلون، فقد قال الله تعالى “من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر”، ….قال لى أمير الحسبة فى جماعة أنصار الدين فى تمبكتو وجماعة التوحيد (نواة داعش فى سيناء) سنجعل الإسلام دين العالم من الصين إلى أمريكا، وفى حادثة “شارلى إبدو” بفرنسا لو تتذكر قال أحد قادة القاعدة فى اليمن الذى أعلن مسئوليتهم عن الحادث : “لن تنعموا بالأمن مادمتم تحاربون الله ورسوله” فى حين أن عبد المطلب – جد النبى صلى الله عليه وسلم – طلب غنماته من أبرهه الحبشى عندما توجه إلى مكة لهدم الكعبة ، وترك البيت لربه يحميه إيمانا بالله وقد حدث ، ولذلك فإن وهم التحضر وتكنولوجيا العصر لم تنس منتسبي هذه الجماعات الإرهابية استخدام لغة القواميس القديمة دون إدراك لقدرة هذه اللغة ومفرداتها على التطابق مع واقعهم الحالى، وهم فى ذلك يعبرون عن فقدان هوية وخلل فى بنيتهم الاجتماعية والثقافية، وهناك ما هو غائب عنا ضمن فلسفة “سيكولوجيا القطيع” التى حددها جوستاف لوبون قبل 120 عاما فى كتاب بنفس العنوان، وتشير إلى تأثير القطيع فى صنع القرار ومن خلال الشائعات وترويجها ، لتصل إلى مرتبة الحقيقة ثم لا تقبل نقاشا، ويمثل ذلك افتراسا للعقل الذي تستغله هذه التنظيمات الإرهابية بشكل واسع حاليا، وتتحكم فى المجتمع من خلال التواصل مع كل عقل على حدة عبر مواقع التواصل ووسائله الحديثة لتصل إلى صناعة عقلية القطيع خلال زمن قياسى، كما استغلته الأنظمة التى عبرت عن خيبة أمل ووهم ما أسمى الدولة الوطنية، وفشلها الحاد في المنطقة العربية ، وهو الصراع الدائم بين القوة واللحية، بين الدين والسلاح وهي جدلية العالم كله ، وإن كان الغرب تخلص منها ما بعد العصور الوسطى ، ولكنها تتم فيه الأن من خلال سفراء إبليس وعبدة الشيطان ، وهنا في بلداننا لازلنا في خضم هذه الجدلية ، خصوصا مع إفتقار الجماهيرالعربية والإفريقية إلى المعرفة الثقافية ومنهج العقل النقدى ، لأننا فى مناهجنا التعليمية لم نرب عليها، وخطر ذلك هو تجريد الشباب من صفاتهم الإيجابية عبر دفعهم إلى حظيرة القطيع بعد هندسة عقله مما أسهم فى التشويش الدينى والسياسى و إحداث خلل فى أولويات الفرد، ومن ثم الخلل فى أولويات الوطن والخروج من سلطة الدين ببنيته التقليدية الأساسية واستبدالها بأطر وكيانات جديدة مع ترسخ الاعتقاد فى أن ذلك لن يتحقق إلا بالتدمير ثم البناء وتآكل مفهوم المسئولية الفردية نتيجة الانهيار الداخلى النفسى للفرد مما يجنح به إلى الارتكان إلى ظهير دينى جماعى جديد ، وينساقون فى كل ذلك وراء نزعة رومانسية فى تفسير الأحداث بأن وراءهم قوة الله ، كما كانت وراء الصحابة أو وراء النبى، وأدت إلى انتصاراته ،ليس بقوته المتواضعة ولا قوة أصحابه البسطاء الذين كان – أحيانا – لا يجد ما يحملهم عليه (الدابة) أو الزاد والمؤن.
فإذا نظرنا حولنا سنجد كثير من بلداننا العربىية والإفريقية مفككة جرت فيها بروفات التقسيم بداية من الصومال – كان انهيار النظام فيها عام 1990 مجرد بالونة اختبار- لم نعرها إهتماما وتركناها تواجه مصيرها وحدها، فبدأت مرحلة حرث الأرض بدفع صدام حسين إلى الإتيان بأكبر جرم لحاكم عربى فى العصر الحديث باحتلاله الكويت ثم الأحداث والإنقلابات في إفريقيا والحروب الأهلية ، لاتخاذ المبرر لكل ما يتم هندسته الآن بشكل لم يتصوره عقل قبل حدوثه. لنصل الآن إلى المرحلة الأخطر فى تاريخ العرب والأفارقة المعاصر، وباستقراء التحالفات شديدة التعقيد والتشابك على المستويين الإقليمى والدولى المعلن منها والسرى، سنجد أنها كلها نذر شؤم، وأن حرباً مقبلة ستمحو دولاً وتشل أخرى وتنهك ثالثة، وفى تقديرى أنه زلزال اتفقت على أحداثه إيران وحلفائها فى سوريا ولبنان واليمن مع بعض القوي الإقليمية – صغيرة وكبيرة – ومن وراءها، مما ستدفع فئات أو طوائف فى بعض الدول إلى المطالبة بالتقسيم كحل يتصورونه نهائى لأزماتهم وما تمرد الطوارق فى إقليم أزواد – شمال مالى – واستفتاء الأكراد فى شمال العراق إلا تجربة للقياس، وإن استطاعت القوى المهيمنة دوليا التسريع بهذا الأمر. فإننا جميعا سنصبح فى غياهب الزمن لعشرات السنين.
ألا ترى بارقة أمل؟
ليس هناك- للأسف – بارقة أمل ن وأنا شخصيا أرى أننا منذ عام 2010 كنا قد دخلنا مرحلة عذاب النار ، ومنذ 2020 دخلنا مرحلة بئس المصير ، خصوصا في ظل الوضع العالمي المنهار والذي سيصل الأمر فيه حسب صيرورة التاريخ وحركة البشر على كوكب الأرض إلى حرب عالمية ستعمل على إفناء البشر لتحقق خطة المليار الذهبي والتي نصت عليها بنود ” أحجار جورجيا ” وبالتالي – فيما يخص إقليمنا ستتم التسوية الشاملة بعد الحرب الشاملة وقد تبدأ الشرارة من منطقتنا العربية بإعتبارها إحدى أهم وأخطر المناطق الرخوة في العالم ومليئة بالموارد وأهمها الطاقة سواء الجديدة أو التقليدية ، وقد يحدث دفع استخبارى لسلوك متهور يؤدى إلى تحرش أو تهور عسكرى، حينها ستشتعل الأمور، لأن هذا ما ستستغله إيران لإدخال المنطقة فى حروب مهلكة وهو ما تخطط له منذ عقود، لأن هذه الحروب هى ضرورة مقدسة لإخراج القائم – المهدى المنتظر – حسب أدبيات ومرويات وأحاديث سادتهم وملاليهم. لهذا ساهموا بقوة فى رعاية ودعم تنظيم القاعدة وإنشاء داعش لإبقاء فتيل النار مشتعلاً فى سوريا والعراق.
كيف وهم حاربوا “داعش” ضد نظام بشار الأسد؟
هذا وهم سوقته آلة الإعلام الغربية المتفقة فى كثير من الملفات والمصالح مع أهداف إيران، وللأسف تلقفناه نحن دون استقصاء ولا تفكير، وأعدنا إنتاجه فى كل الصور الإعلامية لتطحن أدمغتنا التى لا نستغلها فى أعمال النقد أو النقض.
زدنى بالمعلومات من فضلك، وأنت صحفى استقصائى وباحث تاريخ .. كيف؟
خرجت القاعدة من رحم الإخوان وأسهمت إيران فى دعمها ورعايتها لأكثر من عشرين عاماً، ثم لما غُلبت القاعدة وضعفت شاركت فى إنشاء “داعش”.
كيف وفكر ملالى إيران ضد السنة؟
ملالى إيران وشيعة إيران ضد العرب كعرق وإثنية، لم ينس الفارسيون أن هؤلاء العرب “الحفاة .. العراة” أخمدوا نيرانهم وهدموا إمبراطوريتهم.
حدثنا بوقائع تاريخية مسلسلة؟
صمت الزميل أيمن السيسى كأنما يستعد لقول ما أو يستعيد من الذاكرة ما سيقوله .. ثم فقال على طريقة أهل السينما نأخذ لقطة أو صورة أحمدى نجاد الرئيس الإيرانى السابق أثناء دخوله الجامع الأزهر الشريف بصحبة محمد مرسى الرئيس المصرى آنذاك عام 2012، ورفعه “نجاد” لأصبعيه بعلامة النصر، خطورة هذه اللقطة أن رئيس إيران الشيعية يدخل الأزهر بعد إبراؤه من التشيع بأكثر من ستمائة عام وبصحبة أحد الإخوان. وعلاقة عصبة الملالى بعصبة الإخوان قديمة بدأت على يد الملا محمد نواب سفافى الذى قتل القاضى أحمد القصراوى الذى عده الخمينى عدوه الأول وكتب “إن حكم الإسلام يحل دمك” فقتله محمد نواب فى مكتبه بالمحكمة فى طهران عام 1942 بشكل مماثل لحادثة قتل القاضى المصرى أحمد الخازندار، هنا نلاحظ أول لقاء جمع بين محمد نواب سفافى وحسن البنا تم عام 1937 فى دار الإخوان بالحلمية عاد بعدها ليكون جماعة دينية يرعاها روح الله الخمينى وأنشأ داخلها عام 1942 منفذى إرادة الله، وهم عشرة أشخاص مهمتهم ملاحقة “أعداء الإسلام” وقتلهم منهم رئيس وزراء إيران آنذاك عبد المحسن أزهير واللواء حاج على رازمار وأحمد زنغامة وزير المعارف، فهذه الفرقة بمثابة التنظيم الخاص واتخذ سفاف لقب الأستاذ. ولذلك ليس غريبا أن يطلق اسم الخمينيون المصريون على الإخوان القطبيين، بل وإطلاق اسم خالد الإسلامبولى على أحد شوارع طهران، وهو أحد أشباب الإخوان الذى قتل السادات وعزز الملالى صورته فى أدبياتهم كشهيد يستحق التمجيد. ثم نعود إلى عام 1979 عند قفز الملالى على حكم إيران، وهنا سأستند إلى ما تحفظه الذاكرة من كلام للرئيس الإيرانى الأسبق الدكتور محمد خاتمى مما سمعت منه فى جلسة ضمت السيد عبد الحليم خدام، نائب الرئيس السورى الأسبق وبحضور وزير الدفاع العماد مصطفى طلاس، وكان بصحبته ابنه المقدم – آنذاك – مناف طلاس، أثناء زيارته لدمشق عام 2000، قال خاتمى وقتها أنهم على علاقة وطيدة وجيدة بـ”الإخوان المسلمين”، وأنهم لما سقطت طهران فى أيديهم – ثوار الخومينى – فجأة بعد انضمام قادة سلاح الطيران إليهم وتحكموا فى البلاد واستقدموا خومينيهم من باريس لم يجدوا نظام حكم أقرب إليهم وإلى فكرهم وتنظيمهم يعلنوه إلا نظام التشكيل الهرمى النظامى لجماعة الإخوان، مجموعة النصيحة والإرشاد والقيادة ممثلة فى هيئة تشخيص مصلحة النظام وعلى رأسها الخومينى وأسموه مرشد الثورة، مأخوذا من “مرشد الإخوان”، وعندما أجريت حواراً لـ (الأهرام) مع مرشد الإخوان محمد بديع عام 2011 بعد إنشاء الجماعة لحزب “الحرية والعدالة” كفرع للنشاط السياسى أو كما يقال “الذراع السياسى”. سألته عن دور ومهام الحزب وعلاقته بمكتب الإرشاد، وهل سيقود هذا المكتب الحزب؟ قال المرشد: مكتب الإرشاد مختلف عن الحزب الذى سيعمل بالسياسة ويرجع للمكتب فى أموره، فسألته: هل معنى ذلك أن مكتب الإرشاد سيكون بمثابة “هيئة تشخيص مصلحة النظام” الإيرانية؟ فضحك ورفض الإجابة على هذا السؤال، وأضاف خارج سياق الحديث أنت تقصد علاقاتنا بإيران، قلت نعم، قال: أفضل ألا تذكر ذلك الآن، وبالفعل نشر الحديث فى الأهرام يوم الجمعة 11 مارس عام 2011 دون التعليق على هذا السؤال، ثم تحدث ببعض ما سمعته سابقاً بتفاصيل من محمد خاتمى، وأنهم بعد أحكام الحصار الاقتصادى حولهم بعد حادثة السفارة الأمريكية فى طهران، وكان الشاب وقتها أحمدى نجاد ضمن الطلبة الذين حاصروها، وأعوزتهم الحاجة والحصار إلى أدوية وأغذية وألبان أطفال كانت قوافل من الشاحنات تحمل إليهم – عبر حدودهم مع تركيا – بأموال ودعم وتسيير جماعة الإخوان.
وكان الأخوان قد بدأوا التواجد فى أفغانستان وباكستان لدعم “المجاهدين الأفغان” إبان الاحتلال الروسى، وكونوا أول جهاز إعلامى لدعمهم بداية من الفيلم التسجيلى الذى صوره وأخرجه “محمود حسن” المصور السينمائى الإخوانى، وكان يعيش آنذاك فى الكويت.
ثم كتاب محمد عبد القادر “المسلمون فى أفغانستان” وذلك عام 1984. ثم مجلة “البيان المرصوص” عام 1985، تبعها الدعم اللوجستى بداية من الطبى الذى قامت به الجمعية الطبية الإسلامية المصرية – الإخوانية طبعاً – وعلى رأسها الدكتور أحمد الملط وإرسالها أطباء لإنشاء مستشفيات ميدان تنطلق من باكستان بعد اتفاق عمر التلمسانى مرشد الإخوان آنذاك مع الرئيس ضياء الحق الذى استقبله وسهل له الوصول إلى “بيشاور” للقاء المجاهدين وسماحه لهم بتأسيس “لجنة الغوث”، وسمح لهم بإنشاء مكتب دائم لها فى بيشاور.
وبعد ذلك زاد ونشط التواجد الإخوانى فى أفغانستان، وكانت المرحلة الحاسمة هى زيارة “كمال السنانيرى” أحد أخطر عناصر التنظيم الخاص المسلح، ودوره فى جمع قادة الجهاد الأفغان فى اتفاق أخطر ما فيه هو تهيئة الأرض والسماح بوجود مقاتلين عرب فى كيان اسمه “مأسدة الأنصار” أسسه أسامة بن لادن الذى لم ينكر تربيته على فكر الإخوان، وهو ما ظهر فيما أفرجت عنه الـ CIA من وثائق بعد مقتل اسامة، هذه المأسدة تكونت على قواعد فكر الإخوان بتنفيذ وتنظير الإخوانى الفلسطينى “عبد الله عزام”، والتى تحولت بعدها إلى “قاعدة الجهاد”، ثم استقر الأسم على تنظيم القاعدة، وهذا ما أكدته قبل خمس سنوات فى تحقيق استقصائى عن كون إيران ملاذ القاعدة، ثم ضمنته كتابى “من نواكشوط حتى تمبكتو” وزدت فيه تحقيقا آخر حول علاقة إيران بتأسيس ودعم تنظيم داعش. ولم أكن بانتظار الأمريكان لتأكيد وتوثيق علاقة إيران بالقاعدة.
ولكنها تسريبات المخابرات الأمريكية؟
هى حصلت عليه من دفاتر “أسامة بن لادن” وجدوها فى مخبأه، وأنا حصلت عليها من عمل ميدانى استقصائى امتد من موريتانيا حتى ليبيا مرورا بمالى والنيجر، و جنوب الجزائر تتبعا و مصاحبة لعناصر وقيادات تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامى، وأيضا من أوراق جماعة “أنصار الدين” بعد فرارها من تمبكتو، فضلا عن قدرة المتتبع للنشاط الإيرانى فى المنطقة العربية والأفريقية يستطيع فهم هذه العلاقة، فإيران هى الممر الآمن لجماعات وأفراد هذا التنظيم، ولكننا لا ننظر للخريطة، ولا نعرف شيئا عن الجغرافيا فى حين أن أولى خطوات فهم السياسة هو معرفة الجغرافيا. إذن .. لماذا – فى تقديرك – أعلنت الاستخبارات الأمريكية مؤخرا ؟ هذا التسريب ليس لتأكيد العلاقة بين القاعدة وإيران، لأن هذا أصبح من كلاسيكيات أدبيات أسامة بن لادن وتنظيمه، ولكن الأمريكان يلعبون بنا ويعرفون جيدا أننا نؤمن – على قاعدة تسفيه الذات بأن المجد فى خصيتى الـ CIA – وعلى هذا فإنهم بهذا النشر سيصرفون اهتمامنا ويوجهون أنظارنا إلى ناحية أخرى غير التى يجب أن ننتبه لها.
وما هى؟
الصحراء الكبرى، النيجر ومالي وتشاد وغرب السودان حتى إريتريا وفي ليبيا وما ستنضح به من إرهاب أكثر خطورة من داعش بعد فشل المشروع الأمرو-صهيونى-الإيرانى. إنظر إلى الواقع في النيجر ومالي وبوركينا وشمال نيجيريا وتصاعد العمليات الإرهابية وتزايد أعداد القتلى و” الخناقة ” بين روسيا وفرنسا في هذا الإقليم ، فقد أصبحت هذه المنطقة ومعها ليبيا كارثة بكل المقاييس. ففيها ما يزيد على 12 تنظيم تكفيرى ، مثل كتيبة شهداء بوسليم، والجماعة الليبية المقاتلة، وأنصار الشريعة، و “أنصار الدين” و”التوحيد والجهاد” و”ماسينا” و”بوكو حرام”، وما تجمع في جماعة ” نصرة الإسلام والمسلمين ” وهذه التنظيمات تزخر بها ليبيا و بلدان الغرب الإفريقى، وخصوصا مالى بعد حرب يناير 2013 عليها من قبل الطيران الفرنسية أو جيش منظمة “إيكواس”، وإن كانت هذه التنظيمات ترتبط عضويا وتاريخيا مع عناصر القاعدة بكل تفرعاتها فى ليبيا لكون زعماء بعض هذه التنظيمات تربى وتدرب عسكريا فى ليبيا، خصوصا الطوارق مثل أياد أج غالى الذى قاد فرقا من الطوارق للمشاركة سواء فى لبنان تحت جناح الجبهة الشعبية “القيادة العامة” كدعم من القذافى لأحمد جبريل، القيادى الفلسطينى، أو فى حرب تشاد، أو فى حرب “أوجادين” – للأسف – دعما للقوات الإثيوبية ضد الصومال. وأيضا أمادوكوفا – منشق عن بوكو حرام – ومنضم حاليا ضمن تحالف “نصرة الإسلام والمسلمين” الذى يقوده أياد أج غالى. وهناك تنظيم أو كتيبة مختار بلمختار المشهور بـ”بلعور” أحد أخطر الإرهابيين فى الصحراء الكبرى، وكذلك سرايا الدفاع عن بنغازى وغيرها من الميليشيات التى تكونت إبان تولى الإرهابى القاعدى خالد الشريف، أحد قادة الجماعة الليبية المقاتلة – لرئاسة أركان القوات المسلحة الليبية بعد مقتل معمر القذافى، وأنفق على تسليحها أكثر من 14 مليار دولار استورد بأغلبها أسلحة من تركيا.
هذا يعنى أن ليبيا مثلا لن تتخلص قريبا من الميليشيات التكفيرية؟
نعم بكل تأكيد وفى تقديري أن ذلك صعب الا اذا توحدت رؤية القوي الدولية، فضلا عن ميليشيات أخرى تكونت خلال السنوات الثلاث الأخيرة. الأزمة فى ليبيا تعدت وجود إرهاب إلى خلق ميليشيات (اقتصادية) وقبائلية وإجرامية عصابية اكتسبت أرضا ومواقع وجماهير وحقوقا شبه قانونية بتسجيلها ضمن الكيانات العسكرية التى ينادى البعض بإدماجها فى الجيش المزمع تأسيسه على اساس توحيد كتائبه التى انقسمت مع حكومات ثلاث فى البلاد، وهذه الميليشيات أصبحت مورد ارتزاق لكثير من العاطلين عن العمل والمتنطعين. بعض هذه الميليشيات كانت تعيش على الدعم القطرى، الآن وقد نضبت بعد أن اقتصر على تلك الموالية لها بشكل مباشر وتكفيرية بشكل واضح مثل أنصار الشريعة، والليبية المقاتلة، وشهداء بوسليم، والتى يجتهد العملاء من خلال أراضى السودان لتوصيل الأموال إليها عن طريق بعض عصابات التهريب وقُطاع الطرق فى الصحراء والممرات الجبلية فى هضبة تبستى وممرات بحر الرمال الأعظم، وأصبح لديها أزمة مال لإعاشة وإعالة عناصرها، ولذلك سابقت الميليشيات الاقتصادية فى تهريب المخدرات والعملة والتزييف وتهريب النفط وتجارة الرقيق والأعضاء البشرية، وأصبح لها قوانينها الخاصة وسجونها وإرهابها المماثل لإرهاب ميليشيات التكفير. وفى تصورى أنها قدمت نفسها بشكل جيد لأجهزة الاستخبارات الدولية والدول الداعمة للإرهاب والتفتيت.
بمعنى؟
بمعنى أنها قد تصبح ميليشيات بديلة للجماعات التكفيرية لتنفيذ أى مخططات قادمة، خصوصا فى مصر، فهناك ميليشيا أحمد الدباش المسمى “العمو” نواة جديدة لميليشيات أخرى بدأت تتكون فى الجنوب وبعضها تكون بالفعل من عصابات قطع الطرق والسلب أغلبها من التبو، وهم يسيطرون على المسارب والدروب الصحراوية على طول الخط جنوب الصحراء الكبرى وخطورتها أنها تمتد من شمال النيجر حتى شمال غرب دارفور وشرق العوينات، وهى أعلم المخلوقات بالدروب خصوصا فى بحر الرمال الأعظم وهو ما يمثل خطرا كبيرا ومستمرا على مصر، خصوصا مع سعى الأمارات لتفكيك الجيش السوداني، ودعم الأجنحة الميلشاوية والقبلية فى السودان، بعد نجاح قواتنا المسلحة الباسلة فى تفكيك خلايا الإرهاب فى سيناء والقضاء على أغلبه، وهذا النجاح الفعلى هو الذى أدى إلى نقل عمليات الإرهاب إلى الصحراء الغربية بسبب، أولا: تجفيف منابع الدعم سواء المتسرب من السودان إلى سيناء عبر الصحراء الشرقية أو المتسرب من غزة عبر الأنفاق بعد اتفاقية المصالحة بين الأطراف الفلسطينية والنص فيها على تسلم السلطة الفلسطينية (قوامها منظمة فتح) للمعابر وسيطرتها على الحدود، وهى تتعاون معنا بشكل جيد لأنها تضع مصالح شعبها الفلسطينى نصب أعينها.
ولذلك تحرص على التعاون مع الجيش المصرى لإيمانها بأنه أكثر المؤسسات فى العالم حرصا على فلسطين وقضية شعبها بدليل ما فعلته مصر لغزة وحمايتها ودعمها مؤخرا.
ولكن هذا التجفيف والتضييق تزامن مع الاتجاه إلى التهدئة فى سوريا وهزيمة داعش فهرب أغلبهم إلى ليبيا مع نزوح جماعات الإرهاب الإفريقية من الصحراء الكبرى إلى ليبيا، خصوصا فى “الجفرة” و”الكفرة” و”درنة”، وهنا الخطورة.
كيف؟
أنهم اقتربوا من الكتل السكانية وأصبحوا على مرمى حجر من الجيزة والمنيا والفيوم، وحادثة الواحات الأخيرة تدل على ذلك. فرغم الخسائر فى الأفراد الذين استشهدوا من خيرة ضباط الشرطة، إلا أن أرواحهم افتدت مئات بل وقد يكون الآلاف. صحيح كانت هناك أخطاء، ولكن منع تقدم الإرهابيين إلى الجيزة والقاهرة أنقذنا من مصيبة كبرى، لأن الطريق قصير – عبر دروب الصحراء – من الواحات مثل البحرية أو الفرافرة أو الداخلة، من المدن الكبرى، فمثلا من الداخلة أو الفرافرة إلى أسيوط 180كم يمكن قطعها خلال ثلاث ساعات بسيارات الدفع الرباعى، وربما أقل إن كانت مكامنهم فى مناطق قريبة، وقد يصلوا إلى الفيوم خلال ساعة ونصف. لذلك فإن الخطورة الأشد حاليا فى الصحراء الغربية، لأن كل الجهود لن تستطيع منع التهريب، ولا مرور المقاتلين من خلال دروب الصحراء الكثيرة على طول 1200كم تقريبا، وتزداد الخطورة بدخول لاعبين جدد إلى ساحة العمل الإرهابى سواء الميليشيات الاقتصادية – تهريب النفط والمخدرات والبشر وتزوير العملة وتهريبها – والأخيرة نشطت فى ليبيا وأعتقد أن أجهزة استخبارات الدول داعمة وراعية الإرهاب مثل أمريكا وإسرائيل وإنجلترا وإيران ستعمل على استبدال جماعات التكفير بهذه الميليشيات مع زرع بعض الإرهابيين بداخلها.
لماذا؟
لأن الدول وأجهزتها المعنية بمكافحة الإرهاب مثل مصر والسعودية وتشاد تتابع هذه الجماعات وتترصد لها، وفى هذا فرصة للميليشيات كى تمارس عملها، وكلنا نعرف أن التعقب والرصد يكون لجماعات السلاح وتهريب الجماعات المقاتلة. أما السلاح فلم تعد لهذه الجماعات حاجة إلى تهريبه بنفس الوتيرة السابقة، لأن المخزون منه فى مخازن الجماعات الإرهابية فى مصر، خصوصا صحراء الوادى الجديد والواحات أو الفيوم والمنيا وأسيوط، كثير جدا، إذن ستبقى الحاجة لتهريب المقاتلين الأشد عنفا من داعش.
وهل هناك فرق أو جماعات أشد عنفا من داعش؟
نعم، فرقة “الحازمية” أو خوارج الخوارج الذين يتبعون أحمد بن عمر الحازمى – سعودى معتقل منذ مارس 2015 – وهم من يكفرون الجميع على قاعدة عدم العذر بالجهل بل ويكفرون محمد بن عبد الوهاب وابن تيمية.









































