مع دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الرابع، لم تعد جهود كييف تقتصر على ميادين القتال، بل امتدت إلى الساحة الدولية في محاولة لحشد دعم أوسع ضد موسكو. في هذا الإطار، تُولي أوكرانيا أهمية متزايدة للقارة الأفريقية، التي طالما اعتُبرت منطقة نفوذ تاريخي لروسيا. وبينما تواجه أوكرانيا تحديات اقتصادية وأمنية ضخمة، إلا أنها اختارت التفاعل الاستباقي مع أفريقيا عبر دبلوماسية تجمع بين البُعد الإنساني والعرض العسكري والدبلوماسي، كما يظهر جلياً في الحالة الموريتانية.
في موريتانيا، حيث يحتضن مخيم مبيرا عشرات الآلاف من اللاجئين الأزواديين الفارين من أتون الحرب والقمع في شمال مالي، برزت أوكرانيا كفاعل إنساني مفاجئ. عبر مبادرة “حبوب أوكرانيا”، التي تُنفّذ بالتعاون مع برنامج الغذاء العالمي وبدعم من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، يتم توزيع مساعدات غذائية على اللاجئين الماليين، في وقت تتراجع فيه العديد من الجهات المانحة عن التزاماتها.
إن الشعب الأزوادي، الذي يعاني من أوضاع معيشية قاسية في ظل تجاهل رسمي من النظام المالي، يُعبّر عن شكره العميق للقيادة الأوكرانية التي لم تمنعها الحرب الدائرة على أراضيها من مدّ يد العون لمن هم في أمسّ الحاجة إليه. ويكتسب هذا الموقف الإنساني أهمية خاصة بعد قرار الحكومة الانقلابية في باماكو قطع علاقاتها الدبلوماسية مع كييف في أغسطس الماضي، في انسجام واضح مع المحور الروسي الذي تتبعه.
لكن الدعم الأوكراني لم يقتصر على البعد الإنساني فقط. فقد كشفت مصادر دبلوماسية أن كييف عرضت على نواكشوط مؤخرًا برامج تدريب عسكري للقوات الموريتانية، في خطوة تهدف إلى تعزيز الشراكة الأمنية وخلق توازن في منطقة الساحل التي أصبحت ساحة تنافس بين القوى الدولية. وتأتي هذه المبادرة في وقت تتزايد فيه التحديات الأمنية في موريتانيا والمنطقة، خاصة بسبب التمدد الجهادي والانقلابات العسكرية في الجوار.
وعلى الصعيد الدبلوماسي، تسعى أوكرانيا إلى مضاعفة تمثيلها في أفريقيا، بعد أن كان حضورها قبل عام 2022 يقتصر على عشر سفارات فقط. فقد أعلن الرئيس فولوديمير زيلينسكي عن خطة لافتتاح سفارات جديدة في دول استراتيجية مثل بوتسوانا وموزمبيق ورواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية. وتُعدّ هذه الخطوة رسالة واضحة بأن أوكرانيا تنوي أن تكون فاعلًا دوليًا، حتى في القارة التي تُعدّ ساحة نفوذ متزايدة للكرملين.
ورغم التحديات الاقتصادية التي تواجهها بسبب الحرب، تعتمد كييف على الابتكار والمرونة. إذ تعمل على خفض تكاليف بعثاتها عبر تقليص عدد موظفيها ومشاركة المقرات الدبلوماسية مع دول حليفة مثل بولندا أو ليتوانيا. هذا التوجه يُظهر التزامًا واضحًا بالتواجد المستدام، ولو بأدوات متواضعة.
إنّ المبادرات الأوكرانية في القارة السمراء ليست مجرد تحرّك تكتيكي، بل هي محاولة لبناء تحالفات قائمة على الاحترام المتبادل والدعم الإنساني والتعاون الأمني. وفي وقت تكثّف فيه موسكو اتفاقياتها الأمنية والاقتصادية مع العديد من الدول الأفريقية بما فيها مالي التي تقتل الأزواديين بدعم من فاغنر/ الفيلق الإفريقي الروس وتهجر الأزواديين إلى موريتانيا، تسعى كييف إلى تقديم بديل يُركّز على التضامن لا التبعية، وعلى الشراكة لا الهيمنة.
وفي هذا السياق، نُوجّه تحية صادقة وعرفاناً من الشعب الأزوادي إلى الشعب الأوكراني وقيادته، لما أظهروه من تضامن حقيقي مع معاناة اللاجئين في موريتانيا، في وقت خذلهم فيه جيرانهم وقطعت مالي علاقاتها مع أوكرانيا بقرار سياسي لا يُعبّر عن ضمير الشعوب.
بقدر ما تُعبّر هذه المبادرات عن استراتيجية، فهي أيضًا تعبير عن إنسانية لا تُقهر، ورسالة بأن التضامن في الأوقات الصعبة يمكن أن يكون جسرًا لبناء عالم أكثر عدلاً وتعاونًا.