Site icon مؤسسة النهضة الإعلامية

فاغنر في مالي: سجون سرية وتعذيب تحت غطاء التعاون العسكري

Screenshot_20250612_225227_Chrome

في تقرير استقصائي صادم نشرته منظمة Forbidden Stories ضمن مشروع “فيكتوريا”، كُشف النقاب عن نظام سري من السجون تديره مجموعة فاغنر الروسية بالتعاون مع الجيش المالي، حيث تُمارس فيه الانتهاكات الجسيمة بحق مئات المدنيين في أزواد ووسط مالي منذ عام 2021.

من أوكرانيا إلى مالي: نسخة مكررة من الرعب

يستند التحقيق إلى شهادات ناجين، وصور أقمار صناعية، وتحقيقات ميدانية في مخيم اللاجئين بـ”مبيرا” في موريتانيا. وتبيّن أن التكتيكات التي استخدمتها فاغنر في الأراضي الأوكرانية المحتلة  من اختطاف، واحتجاز تعسفي، وتعذيب ممنهج قد تم تصديرها إلى إفريقيا، حيث وجدت في مالي بيئة خصبة لتكرار نفس الأساليب تحت غطاء التعاون العسكري مع النظام الحاكم هناك.

مراكز احتجاز خلف جدران القواعد العسكرية

حدد التحقيق ستة مواقع رئيسية استخدمتها فاغنر كمراكز احتجاز وتعذيب: بامبا، كيدال، نيانفونكي، نيامبالا، سيفاري، وسوفارا. تقع هذه المواقع غالبًا داخل قواعد عسكرية يتشاركها الروس مع الجيش المالي (FAMa)، وبعضها شُيّد فوق قواعد سابقة لقوات الأمم المتحدة.

السجناء يُحتجزون في ظروف مزرية، تُستخدم فيها الحاويات المعدنية كزنازين، وتُمارَس فيها أساليب التعذيب بالصدمات الكهربائية، الحرق بالسجائر، الإغراق في الماء (waterboarding)، والضرب حتى الإغماء.

قصة وانغرين: شاهد على الرعب

وانغرين، عامل إغاثة مالي فرّ إلى موريتانيا بعد إطلاق سراحه، روى كيف احتُجز في قاعدة نيامبالا، حيث سُمع صوت الموسيقى الروسية الصاخبة يعلو فوق صرخات المعذبين. “كانوا يُغرقون رؤوسنا في الماء، ويضربوننا على الرأس والجوانب، كأنهم يقتلون كلابًا”، حسب قوله.

أمضى أسبوعًا في زنزانة مظلمة، يتناول وجبة واحدة فقط يوميًا (أرز أبيض بالملح)، وتعرض للضرب بالأسلاك الكهربائية.

استهداف ممنهج للمدنيين: لماذا؟

يرى خبراء أن السلطات المالية، بعد الانقلاب العسكري في 2021 بقيادة الكولونيل عاصمي غويتا، استبدلت التحالف الفرنسي بروسيا لتجنب الرقابة الدولية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت القوات الروسية — تحت مظلة فاغنر، والآن “فيلق إفريقيا” — لاعبًا أساسيًا في العمليات ضد الجماعات المسلحة، لكن بأسلوب يعتمد على استهداف المدنيين بدلًا من حماية حقوقهم.

“القوات ترى المدنيين في مناطق سيطرة الجهاديين كأنهم متعاونون”، بحسب يافان غيشوا من مركز بون للدراسات.

الإفلات من العقاب: عدالة مغيبة وصمت رسمي

التحقيق يشير إلى أن الجيش المالي لا يملك سلطة حقيقية على عناصر فاغنر، بل إن الأخيرة تنفذ الاعتقالات والتعذيب بشكل مستقل. وفي حالات عديدة، تُحتجز الضحايا لأيام أو أسابيع دون محاكمات، وتُطلب فدية من ذويهم.

كما وثقت منظمات حقوقية مثل جمعية كل أكال و التجمع من أجل الدفاع عن الشعب الأزوادي CD-DPA مئات حالات الاختفاء القسري، مؤكدين أن هذه الانتهاكات ليست حوادث فردية بل سياسة متعمدة لـ”بث الرعب ودفع السكان إلى النزوح”، كما قال بوبكر ولد حمادي، رئيس CD-DPA.

نهاية فاغنر… بداية جديدة؟

أعلنت مجموعة فاغنر رسميًا مغادرتها مالي في يونيو 2025، لكنها لم تغادر فعليًا. فالعناصر نفسها عادت تحت مسمى “فيلق إفريقيا” التابع لوزارة الدفاع الروسية. رغم تراجع التغطية الإعلامية للانتهاكات في الفترة الأخيرة، إلا أن مخاوف السكان وحقوقيي المنطقة لم تتغير: فالفريق الجديد يحمل نفس الخلفية العسكرية، وربما ذات النوايا.

صمت دولي وتواطؤ ضمني؟

حتى لحظة كتابة التقرير، لم تصدر أي ردود من وزارة الدفاع المالية أو الروسية أو السفارة الروسية في باماكو. أما الأمم المتحدة، التي انسحبت قواتها من مالي، فتكتفي حتى الآن بالمراقبة عن بُعد، وسط انتقادات متزايدة لتخلي المجتمع الدولي عن الشعب المالي.

ختامًا: من يحمل الشعلة؟

هذا التحقيق يأتي ضمن مشروع “فيكتوريا”، تكريمًا للصحفية الأوكرانية فيكتوريا روشينا التي اختطفتها روسيا أثناء تحقيقها في احتجاز المدنيين في الأراضي الأوكرانية المحتلة، قبل أن تُعلن وفاتها في الأسر عام 2024.

تُسلّط قضية سجون فاغنر السرية في مالي ضوءاً قاتماً على انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان تُمارس في الخفاء، بعيداً عن أعين القانون والمجتمع الدولي. فالأدلة والشهادات التي كشفت عنها تحقيقات Forbidden Stories وشركاؤها تُظهر نمطاً ممنهجاً من الاعتقالات التعسفية، والتعذيب، والاختفاء القسري، ارتكبته عناصر فاغنر الروسية بالتعاون مع الجيش المالي، في مواقع عسكرية وسجون غير رسمية موزعة في أنحاء البلاد.

تشير هذه الوقائع إلى تكرار لنفس الأساليب التي استخدمتها فاغنر في أوكرانيا وسوريا وأفريقيا الوسطى، ما يؤكد أن هذه الانتهاكات ليست حوادث فردية، بل سياسة متعمدة تعتمد على الترهيب والدمار كوسيلة للسيطرة. وفي ظل انعدام الشفافية، وغياب آليات المحاسبة، وتواطؤ السلطات أو عجزها، تُترك آلاف العائلات في ظلمة الانتظار والقلق على مصير أحبّائها المفقودين.

رحيل فاغنر لا يعني نهاية هذا النمط من القمع، بل انتقاله إلى شكل آخر عبر “فيلق أفريقيا” الذي ترعاه وزارة الدفاع الروسية مباشرة، مما ينذر باستمرار الانتهاكات تحت مظلة جديدة وأكثر رسمية. وعليه، فإن المجتمع الدولي، ومنظمات حقوق الإنسان، والصحافة الحرة، مطالبون بمواصلة الضغط وكشف الحقيقة، لضمان العدالة للضحايا، وردع من يعتقد أن بإمكانه الإفلات من العقاب.

ففي النهاية، لا يمكن بناء سلام حقيقي في مالي أو أي منطقة أخرى دون محاسبة الجناة، وإنصاف الضحايا، وضمان عدم تكرار هذه الجرائم في المستقبل.

Exit mobile version